للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَعْقِلُ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ وُقُوعَهَا عَلَى آحَادِ مَنْ يَعْقِلُ. أَمَّا مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَّضِحُ حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَعَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ مِنْ إِطْلَاقِ مَا عَلَى مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ تَلَقَّتِ الصَّحَابَةُ الْآيَةَ وَاسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ حَلَائِلَ الْآبَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا يَحْرُمُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا أَبُوكَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ.

وَقَالَ قَوْمٌ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ آبَائِكُمْ أَيْ: مِثْلَ نِكَاحِ آبَائِكُمُ الْفَاسِدِ، أَوِ الْحَرَامِ الَّذِي كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَالشِّغَارِ وَغَيْرِهِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ ضَرْبَ الْأَمِيرِ أَيْ: مِثْلَ ضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَيُبَيِّنُ كَوْنَهُ حَرَامًا أَوْ فَاسِدًا قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «١» وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ وَلَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ اللَّاتِي نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ مَا مِنْ. وَحَمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ النِّكَاحِ هُنَا عَلَى الْوَطْءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرِثُونَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي جَمَاعَةٍ: الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، لَا مَا كَانَ مِنْهُمْ بِالزِّنَا انْتَهَى.

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُنْقَطِعٌ، إِذْ لَا يُجَامِعُ الِاسْتِقْبَالُ الْمَاضِيَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُهُمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّ مُتَعَاطِيَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ آثِمٌ، وَتَطَرَّقَ الْوَهْمُ إِلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ قَبْلُ النَّهْيِ مَا حُكْمُهُ. فَقِيلَ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أَيْ: لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ، فَلَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّهْيُ فَلَا إِثْمَ فِيهِ. وَلَمَّا حَمَلَ ابْنُ زَيْدٍ النِّكَاحَ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، حَمَلَ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، عَلَى مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الزِّنَا، فَقَالَ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الزِّنَا بِالنِّسَاءِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَكُمْ زَوَاجُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَعْقِدُوا عَلَى مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ زِنَاهُمْ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَتَزَوَّجُوهُمْ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. وَقِيلَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَطِئَهَا أَبُوهُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنَ الْأَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلِابْنِ تَزَوُّجُهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، إِذْ مَا قَدْ سَلَفَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ، إِذِ المراد: ما


(١) سورة النساء: ٤/ ٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>