للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ مُعْتَقَدُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَارِحَةَ لَهُ، وَلَا يُشَبَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا يُكَيَّفُ، وَلَا يَتَحَيَّزُ، وَلَا تُحِلُّهُ الْحَوَادِثُ، وَكُلُّ هَذَا مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنْ جُودِهِ وَإِنْعَامِهِ السَّابِغِ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْيَدَيْنِ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ

وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الْيَدَيْنِ هُنَا بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ قَرِينَةُ الْإِنْفَاقِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَرَفَ يَقِينًا أَنَّ بَسْطَ الْيَدِ وَقَبْضَهَا اسْتِعَارَةٌ لِلْجُودِ وَالْبُخْلِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ حَيْثُ لَا يَكُونُ قَالَ الشَّاعِرُ:

جَادَ الْحِمَى بَسِطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلٍ ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُهُ وَوِهَادُهُ

وَقَالَ لَبِيدٌ:

وَغَدَاةِ رِيحٍ قَدْ وَزَعْتُ وَقُرَّةٍ ... قَدْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا

وَيُقَالُ: بَسَطَ الْيَأْسُ كَفَّهُ فِي صَدْرِي، وَالْيَأْسُ مَعْنًى لَا عَيْنٌ وَقَدْ جَعَلَ لَهُ كَفًّا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ عَمِيَ عَنْ تَبَصُّرِ مَحَجَّةِ الصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ يَدِ الطَّاعِنِ إِذَا عَبَثَتْ بِهِ ثُمَّ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ ثُنِّيَتِ الْيَدُ فِي بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ وَهِيَ مُفْرَدَةٌ فِي يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ؟ (قُلْتُ) : لِيُكُونَ رَدُّ قَوْلِهِمْ وَإِنْكَارُهُ أَبْلَغَ وَأَدَلَّ عَلَى إِثْبَاتِ غَايَةِ السَّخَاءِ لَهُ وَنَفْيِ الْبُخْلِ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ مَا يَبْذُلُهُ السَّخِيُّ بِمَا لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُعْطِيَهُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، فَبُنِيَ الْمَجَازُ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.

وَقِيلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَدَاهُ نِعْمَتَاهُ، فَقِيلَ: هُمَا مَجَازَانِ عَنْ نِعْمَةِ الدِّينِ وَنِعْمَةِ الدُّنْيَا، أَوْ نِعْمَةِ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ وَالْحَوَاسِّ وَنِعْمَةِ الرِّزْقِ وَالْكِفَايَةِ، أَوِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، أَوْ نِعْمَةِ الْمَطَرِ وَنِعْمَةِ النَّبَاتِ، وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُوهِمُ التَّجْسِيمَ كَهَذَا. وَقَوْلُهُ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «١» ومِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا «٢» ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «٣» ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي «٤» وتَجْرِي بِأَعْيُنِنا «٥» وهالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «٦» وَنَحْوُهَا. فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ أَنَّهَا تُفَسَّرُ عَلَى قَوَانِينِ اللُّغَةِ وَمَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفَانِينِ الكلام.


(١) سورة ص: ٣٨/ ٧٥.
(٢) سورة يس: ٣٦/ ٧١.
(٣) سورة الفتح: ٤٨/ ١٠.
(٤) سورة طه: ٢٠/ ٣٩.
(٥) سورة القمر: ٥٤/ ١٤.
(٦) سورة القصص: ٢٨/ ٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>