وَيَقُولُونَ: هِيَ وَاقِعَةٌ سَمْعًا وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَفِيهِ ذِكْرُ دَلَائِلِ الْفَرِيقَيْنِ مُسْتَوْفَاةٌ وَقَدْ رَأَيْتُ فِيهَا لِأَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ وَهُوَ مِنْ عُقَلَاءِ الْإِمَامِيَّةِ سِفْرًا كَبِيرًا يَنْصُرُ فِيهِ مَقَالَةَ أَصْحَابِهِ نُفَاةِ الرُّؤْيَةِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِمَذْهَبِهِمْ وَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْإِدْرَاكَ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ، وَعَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الرُّؤْيَةُ فَالْأَبْصَارُ مَخْصُوصَةٌ أَيْ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرَهُمْ أَوْ لَا تُدْرِكُهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَالْبَصَرُ هُوَ الْجَوْهَرُ اللَّطِيفُ الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَاسَّةِ النَّظَرِ بِهِ تُدْرَكُ الْمُبْصَرَاتُ وَفِي قَوْلِهِ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يُرَادُ بِهِ هُنَا مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ إِذْ لَوْ كَانَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ وَلَا تَمَدُّحٌ، لِأَنَّا نَحْنُ نَرَى الْأَبْصَارَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِدْرَاكِ الْإِحَاطَةُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ فَهُوَ تَعَالَى لَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ الْأَبْصَارُ وَهُوَ مُحِيطٌ بِحَقِيقَتِهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَبْصَارَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا تُدْرِكُهُ، لِأَنَّهُ مُتَعَالٍ أَنْ يَكُونَ مُبْصِرًا فِي ذَاتِهِ لِأَنَّ الْأَبْصَارَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا كَانَ فِي جِهَةٍ أَصْلًا أَوْ تَابِعًا كَالْأَجْسَامِ وَالْهَيْئَاتِ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ لِلُطْفِ إِدْرَاكِهِ لِلْمُدْرَكَاتِ يُدْرِكُ تِلْكَ الْجَوَاهِرَ اللَّطِيفَةَ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا مُدْرِكٌ.
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ يَلْطُفُ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ الْخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ لَا تَلْطُفُ عَنْ إِدْرَاكِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ وَتَظَافَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا بِبَصَرِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى خِلَافٍ عَنْهُمَا بِذَلِكَ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِبَصَرِهِ وَعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأَوَّلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَشْهَرُ، وَقِيلَ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ مَعْنَاهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَخَصَّ الْأَبْصَارَ لِتَجْنِيسِ الْكَلَامِ يَعْنِي الْمُقَابَلَةَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ لَا يُدْرِكُونَ الْأَبْصَارَ أَيْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ حَقِيقَةِ الْبَصَرِ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ مُبْصِرًا مِنْ عَيْنَيْهِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَعْضَائِهِ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْأَشْيَاءِ خَبِيرٌ بِأَمَاكِنِهَا.
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ هَذَا وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ لِقَوْلِهِ آخِرَهُ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَالْبَصِيرَةُ نُورُ الْقَلْبِ الَّذِي يُسْتَبْصَرُ بِهِ كَمَا أَنَّ الْبَصَرَ نُورُ الْعَيْنِ الَّذِي بِهِ تُبْصِرُ أَيْ جَاءَكُمْ مِنَ الْوَحْيِ وَالتَّنْبِيهِ بِمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا لَا يَجُوزُ مَا هُوَ لِلْقُلُوبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute