للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ: أَنَّهُ لَوْ أَعْمَلَ الْأَوَّلِ لَأُضْمِرَ فِي الثَّانِي، وحتى لَا تَجُرُّ الْمُضْمَرَ، فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ. لَكِنْ مَنْ ذَهَبَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ حَتَّى تَجُرُّ الْمُضْمَرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ، وَكَوْنُ حَتَّى لَا تَجُرُّ الْمُضْمَرَ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ أَعْظَمَ الْمُعْجِزَاتِ، عُلِّقُ السَّمَاعُ بِهِ، وَذُكِرَ السَّمَاعُ لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ إِلَى الْفَهْمِ. وَقَدْ يُرَادُ بِالسَّمَاعِ الْفَهْمُ تَقُولُ لِمَنْ خَاطَبْتَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ: أَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ، تريد لم تفهم. وكلام اللَّهِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، لَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَى الْخَالِقِ وَمَأْمَنَهُ مَكَانُ أَمْنِهِ. وَقِيلَ: مَأْمَنُهُ مَصْدَرٌ، أَيْ ثُمَّ أَبْلِغْهُ أَمْنَهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: «حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ» عَلَى حُدُوثِ كَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْمَعُ إِلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ. وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ حُدُوثُ ذَلِكَ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي التَّوْحِيدِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ، إِذْ عُصِمَ دَمُ الْكَافِرِ الْمُهْدَرِ الدَّمِ بِطَلَبِهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ، وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ. وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ، إِذْ كَانَ لَا يُمْهَلُ بَلْ يُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُسْلِمَ، وَإِمَّا أَنْ تُقْتَلَ.

وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ لَا يُقَرُّ بِأَرْضِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يُبْلَغُ مَأْمَنَهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ حِفْظُهُ وَحَوْطَتُهُ مُدَّةً يَسْمَعُ فِيهَا كَلَامَ اللَّهِ. وَالْخِطَابُ بقوله: استجارك وفأجره، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمَانَ السُّلْطَانِ جَائِزٌ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَالْحُرُّ يَمْضِي أَمَانُهُ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِيهِ وَالْعَبْدُ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدَ: لَهُ الْأَمَانُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَمَانَ لَهُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَالْحُرَّةُ لَهَا الْأَمَانُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا، إِلَّا أَنْ يُجِيرَهُ الْإِمَامُ، وَقَوْلُهُ شَاذٌّ. وَالصَّبِيُّ إِذَا أَطَاقَ الْقِتَالَ جَازَ أَمَانُهُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْإِجَارَةِ وَإِبْلَاغِ الْمَأْمَنِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ جَهَلَةٌ لَا يَعْلَمُونَ مَا الْإِسْلَامُ وَمَا حَقِيقَةُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعْطَائِهِمُ الْأَمَانَ حَتَّى يَسْمَعُوا وَيَفْهَمُوا الْحَقَّ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا اللُّطْفِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِسْمَاعِ وَتَبْلِيغِ الْمَأْمَنِ، لَا يَعْلَمُونَ نَفَى عِلْمَهُمْ بِمَرَاشِدِهِمْ فِي اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ وَالِاسْتِنْكَارُ وَالِاسْتِبْعَادُ. قَالَ التَّبْرِيزِيُّ وَالْكَرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ وَهُمْ لَكُمْ ضِدٌّ. وَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ انْتِفَاءِ الْعَهْدِ بِالْوَصْفِ الَّذِي قَامَ بِهِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ:

<<  <  ج: ص:  >  >>