للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَقْدَمُوا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ صَارَ ذَلِكَ الْعَمَلُ جَارِيًا مَجْرَى التَّوْبَةِ مِنْ تِلْكَ الْكَرَاهَةِ. وَقِيلَ: حُصُولُ الْكُفْرِ وَكَثْرَةُ الْأَمْوَالِ لَذَّةٌ تُطْلَبُ بِطَرِيقٍ حَرَامٍ، فَلَمَّا حَصَلَتْ لَهُمْ طَرِيقٌ حَلَالٌ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَصَارَتِ التَّوْبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِتِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَرَّرُوهُ مِنْ كَوْنِ التَّوْبَةِ تَدْخُلُ تَحْتَ جَوَابِ الْأَمْرِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ، فَالْمَعْنَى عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ قِتَالَ الْكُفَّارِ وَغَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ قَدْ يَنْشَأُ عَنْهَا إِسْلَامُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا دَاعِيَةٌ قَبْلَ الْقِتَالِ. أَلَا تَرَى إِلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ كَيْفَ كَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، لِأَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَى كُرْهٍ وَاضْطِرَارٍ، ثُمَّ قَدْ تَحْسُنُ حَالُهُ فِي الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَيْفَ كَانَ حَالُهُ أَوَّلًا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ صَارَ أَمْرُهُ إِلَى أَحْسَنِ حَالٍ وَمَاتَ أَحْسَنَ مَيْتَةٍ فِي السُّجُودِ فِي صِلَاتِهِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ؟ وَاللَّهُ عَلِيمٌ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِثْلَ مَا يَعْلَمُ مَا قَدْ كَانَ، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِمَا رَتَّبَ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاعِيدِ، وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ حَكِيمٌ فِي تَصْرِيفِ عِبَادِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ تَعَالَى.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَا تُتْرَكُونَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْخُلَّصُ مِنْكُمْ وَهُمُ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهِمْ.

وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَلَمْ يَتَّخِذُوا مَعْطُوفٌ عَلَى جَاهَدُوا. غَيْرَ مُتَّخِذِينَ وَلِيجَةً، وَالْوَلِيجَةُ فَعَيْلَةٌ مِنْ وَلَجَ كَالدَّخِيلَةِ مِنْ دَخَلَ، وَهِيَ الْبِطَانَةُ.

وَالْمُدْخَلُ يُدْخَلُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِسْرَارِ، شُبِّهَ النِّفَاقُ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَلِيجَةُ الْخِيَانَةُ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْخَدِيعَةُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَوْدَاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ وَلَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِيجَةٌ، وَالرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَلِيجَةٌ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَلِيجَةُ الرَّجُلِ مَنْ يَخْتَصُّ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَجَمْعُهَا وَلَائِجُ وَوُلُجٌ، كَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ وَصُحُفٍ. وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ صَفْوَانَ الْغَنَوِيُّ:

وَلَائِجُهُمْ فِي كُلِّ مَبْدًى وَمَحْضَرٍ ... إِلَى كُلِّ مَنْ يُرْجَى وَمَنْ يَتَخَوَّفُ

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ طَعْنٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْوَلَائِجَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ فَرْضِ الْقِتَالِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>