للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ: رُوِيَ أَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الصَّادِرَةَ عَنِ النِّسْوَةِ إِنَّمَا قَصَدْنَ بِهَا الْمَكْرَ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُغْضِبْنَهَا حَتَّى تَعْرِضَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفَ لِيَبِينَ عُذْرُهَا، أو يحق لومها ومكرهن هُوَ اغْتِيَابُهُنَّ إِيَّاهَا، وَسُوءُ مَقَالَتِهِنَّ فِيهَا أَنَّهَا عَشِقَتْ يُوسُفَ. وَسُمِّيَ الِاغْتِيَابُ مَكْرًا، لِأَنَّهُ فِي خُفْيَةٍ وَحَالِ غَيْبَةٍ، كَمَا يُخْفِي الْمَاكِرُ مَكْرَهُ. وَقِيلَ: كَانَتِ اسْتَكْتَمَتْهُنَّ سِرَّهَا فَأَفْشَيْنَهُ عَلَيْهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ لِيَحْضُرْنَ. قِيلَ: دَعَتْ أَرْبَعِينَ امْرَأَةً مِنْهُنَّ الْخَمْسُ الْمَذْكُورَاتُ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى تِلْكَ النِّسْوَةِ الْقَائِلَةِ مَا قُلْنَ عَنْهَا.

وَأَعْتَدَتْ لهن متكئا أَيْ: يَسَّرْتَ وَهَيَّأْتَ لَهُنَّ مَا يَتَّكِئْنَ عَلَيْهِ مِنَ النَّمَارِقِ وَالْمَخَادِّ وَالْوَسَائِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي مَجْلِسٍ أُعِدَّ لِلْكَرَامَةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِكْرَامِ لَا يَخْلُو مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَهُنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَجِئْنَ وَاتَّكَأْنَ. وَمُتَّكَئًا إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَأَعْتَدَتْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُتَّكَئًا، كَمَا جَاءَتْ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُتَّكَئًا مَجْلِسًا، ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ، وَيَكُونُ مُتَّكَئًا ظَرْفَ مَكَانٍ أَيْ: مَكَانًا يَتَّكِئْنَ فِيهِ. وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ تَكُونُ الْآلَاتُ الَّتِي يُتَّكَأُ عَلَيْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:

الْمُتَّكَأُ الطَّعَامُ يُحَزُّ حَزًّا. قَالَ الْقُتَبِيُّ: يُقَالُ اتَّكَأْنَا عِنْدَ فُلَانٍ أَيْ أَكَلْنَا، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْمَجَازِ عَبَّرَ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْآكِلُ الْمُتْرَفُ بِالْمُتَّكَأِ وَهِيَ عَادَةُ الْمُتْرَفِينَ، أَلَا تَرَى إِلَى

قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا»

أَوْ كَمَا قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْمُتَّكَأُ لَيْسَ مُعَبَّرًا بِهِ عَمَّا يُؤْكَلُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَجْلِسِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَيَكُونُ فِي جُمْلَةِ الطَّعَامِ مَا يُقْطَعُ بِالسَّكَاكِينِ. فَقِيلَ: كَانَ لَحْمًا وَكَانُوا لَا يَنْهَشُونَ اللَّحْمَ، إِنَّمَا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ حَزًّا بِالسَّكَاكِينِ.

وَقِيلَ: كَانَ أُتْرُجًّا، وَقِيلَ: كَانَ بَزْمَاوَرْدَ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْأُتْرُجِّ مَوْجُودٌ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْنُوعٌ مِنْ سُكَّرٍ وَلَوْزٍ وَأَخْلَاطٍ، وَمَضْمُونُهُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقْطَعَ بِالسِّكِّينِ، وَعَادَةً مَنْ يَقْطَعُ شَيْئًا أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُتَّكِئًا عَلَيْهِ. قِيلَ: وَكَانَ قَصْدُهَا فِي بُرُوزِهِنَّ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَاتِ مُتَّكِئَاتٍ فِي أَيْدِيهِنَّ سَكَاكِينُ يَحْزُزْنَ بِهَا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: دَهْشِهِنَّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَشَغْلِهِنَّ بِأَنْفُسِهِنَّ، فَتَقَعُ أَيْدِيهِنَّ عَلَى أَيْدِيهِنَّ فَيَقْطَعْنَهَا فَتُبَكِّتُهُنَّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَكْرًا بِهِنَّ إِذْ ذَهَلْنَ عَمَّا أَصَابَهُنَّ مِنْ تَقْطِيعِ أَيْدِيهِنَّ، وَمَا أَحْسَسْنَ بِهِ مَعَ الْأَلَمِ الشَّدِيدِ لِفَرْطِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِنَّ مِنِ اسْتِحْسَانِ يُوسُفَ وَسَلْبِهِ عُقُولَهُنَّ. وَالثَّانِي: التَّهْوِيلُ عَلَى يُوسُفَ بِمَكْرِهَا إِذَا خَرَجَ عَلَى نِسَاءٍ مُجْتَمِعَاتٍ فِي أَيْدِيهِنَّ الْخَنَاجِرُ، تُوهِمُهُ أَنَّهُنَّ يَثِبْنَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ يَحْذَرُ مَكْرَهًا

<<  <  ج: ص:  >  >>