للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عينا، وتنبيه عليها. وعلم هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ لِوَاحِدٍ أُجْرِيَتْ مَجْرَى عَرَفَ، وَاسْتِعْمَالُهَا كَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَلِسَانِ العرب. وكل أُنَاسٍ مَخْصُوصٌ بِصِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ اسْتَسْقَى لَهُمْ. وَالْمَشْرَبُ هُنَا مَكَانُ الشُّرْبِ وَجِهَتُهُ الَّتِي يَجْرِي مِنْهَا الْمَاءُ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَشْرُوبِ وَهُوَ الْمَاءُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَكَانِ بِالْوَضْعِ، وَدَلَالَتَهُ عَلَى الْمَاءِ بِالْمَجَازِ، وَهُوَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِهِ وَإِضَافَةُ الْمَشْرَبِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَخَصَّصَ كُلُّ مَشْرَبٍ بِمَنْ تَخَصَّصَ بِهِ صَارَ كَأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ فِي مَشْرَبِهِمْ عَلَى مَعْنَى كُلُّ لَا عَلَى لَفْظِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى لَفْظِهَا، فَيُقَالُ: مَشْرَبَهُ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعْنَى هُنَا لَازِمَةٌ، لِأَنَّ كُلُّ قَدْ أُضِيفَتْ إِلَى نَكِرَةٍ، وَمَتَى أُضِيفَتْ إِلَى نَكِرَةٍ وَجَبَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى، فَتُطَابِقُ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ فِي عَوْدِ ضَمِيرٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «١» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ حَلَلْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ

وَقَالَ:

وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ ... دُوَيْهِيَّةُ تَصْفَرُّ مِنْهَا الْأَنَامِلُ

وَقَالَ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «٢» ، وَتَقُولُ: كُلُّ رَجُلَيْنِ يَقُولَانِ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مُرَاعَاةُ لَفْظِ كُلُّ، وَثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَشْرَبُهُمْ مِنْهَا: أَيْ مِنَ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا. وَنُصَّ عَلَى الْمَشْرَبِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانَ سَرْدُ الْكَلَامِ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ عَيْنَهُمْ، لَكِنْ فِي ذِكْرِ الْمَشْرَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَسْوِيغِ الشُّرْبِ لَهُمْ مِنْهَا أُنْشِئَ لَهُمُ الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالشُّرْبِ مِنْ هَذِهِ الْعُيُونِ، أَوْ أُمِرُوا بِالدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ غَيْرِ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ بِالْوَاقِعِ أَمْرٌ بِدَوَامِهِ، كَقَوْلِكَ لِلْقَائِمِ: قُمْ. كُلُوا وَاشْرَبُوا: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ، أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ، وَهَذَا الْأَمْرُ أَمْرُ إِبَاحَةٍ. قَالَ السُّلَمِيُّ: مَشْرَبُ كُلِّ أَحَدٍ حَيْثُ أَنْزَلَهُ رَائِدُهُ، فَمَنْ رَائِدُهُ نَفْسُهُ مَشْرَبُهُ الدُّنْيَا، أَوْ قَلْبُهُ فَمَشْرَبُهُ الْآخِرَةُ، أَوْ سِرُّهُ فَمَشْرَبُهُ الْجَنَّةُ، أَوْ رُوحُهُ فَمَشْرَبُهُ السَّلْسَبِيلُ، أَوْ رَبُّهُ فَمَشْرَبُهُ الْحَضْرَةُ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ حَيْثُ يَقُولُ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «٣» ، طَهَّرَهُمْ بِهِ عَنْ كُلِّ مَا سواه، وبدىء بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا، وَثَنَّى بِالشُّرْبِ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَيْهِ حَاصِلٌ عَنِ الْأَكْلِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى مُتَقَدِّمٌ عَلَى انْفِجَارِ الْمَاءِ.


(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٧١.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٥. [.....]
(٣) سورة الإنسان: ٧٦/ ٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>