للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ طَعَامُهُمْ يَأْتِيهِمْ بِصِفَةِ الْوَحْدَةِ، نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنُّ فَأَكَلُوا مِنْهُ مُدَّةً حَتَّى سَئِمُوهُ وَمَلُّوهُ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ السَّلْوَى فَأَكَلُوهَا مُدَّةً وَحْدَهَا. وَقِيلَ: أَرَادُوا بِالطَّعَامِ الْوَاحِدِ السَّلْوَى، لِأَنَّ الْمَنَّ كَانَ شَرَابًا، أَوْ شَيْئًا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ، وَمَا كَانُوا يَعُدُّونَ طَعَامًا إِلَّا السَّلْوَى.

وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنْهُمَا بِالْوَاحِدِ، كَمَا عَبَّرَ بِالْاثْنَيْنِ عَنِ الْوَاحِدِ نَحْوَ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «١» ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمِلْحُ دُونَ الْعَذْبِ. وَقِيلَ: قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ أَحَدِهِمَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى أَنَّنَا كُلَّنَا أَغْنِيَاءُ، فَلَا يَسْتَعِينُ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، وَيَكُونُ قَدْ كَنَى بِالطَّعَامِ الْوَاحِدِ عَنْ كَوْنِهِمْ نَوْعًا وَاحِدًا، وَهُوَ كَوْنُهُمْ ذَوِي غِنًى، فَلَا يَخْدُمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي التِّيهِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهُ عَادُوا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَقْرِ بَعْضٍ وَغِنَى بَعْضٍ. فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلى طَعامٍ واحِدٍ.

فَادْعُ لَنا رَبَّكَ: مَعْنَاهُ: اسْأَلْهُ لَنَا، وَمُتَعَلِّقُ الدُّعَاءِ مَحْذُوفٌ، أَيِ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِأَنْ يُخْرِجَ كَذَا وَكَذَا. وَلُغَةُ بَنِي عَامِرٍ: فَادْعِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، جَعَلُوا دَعَا مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، كَرَمَى يَرْمِي، وَإِنَّمَا سَأَلُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوهُ وَلَمْ يدعوا هم، لِأَنَّ إِجَابَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَقْرَبُ مِنْ إِجَابَةِ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: رَبَّكَ، وَلَمْ يَقُولُوا: رَبَّنَا، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِصَاصِ بِهِ مَا لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ مُنَاجَاتِهِ وَتَكْلِيمِهِ وَإِتْيَانِهِ التَّوْرَاةَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: ادْعُ لَنَا الَّذِي هُوَ مُحْسِنٌ لَكَ، فَكَمَا أَحْسَنَ إِلَيْكَ فِي أَشْيَاءَ، كَذَلِكَ نَرْجُو أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْنَا فِي إِجَابَةِ دُعَائِكَ. يُخْرِجْ لَنا: جَزْمُهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ادْعُ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «٢» . وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَقُلْ لَهُ أَخْرِجْ فَيُخْرِجْ، مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ أَخْرِجْ. وَقِيلَ: جُزِمَ يُخْرِجْ بِلَامٍ مُضْمَرَةٍ، وَهِيَ لَامُ الطَّلَبِ، أَيْ لِيُخْرِجْ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ: مَفْعُولُ يخرج محذوف ومن تَبْعِيضِيَّةٌ: أَيْ مَأْكُولًا مِمَّا تُنْبِتُ، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ زَائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: مَا تُنْبِتُ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، تُنْبِتُهُ، وَفِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً تَقْدِيرُهُ: مِنْ إِنْبَاتِ الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُقَدَّرَ لَا يُوصَفُ بِالْإِنْبَاتِ، لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ مَصْدَرٌ، وَالْمَحْذُوفَ جَوْهَرٌ، وَإِضَافَةَ الْإِنْبَاتِ إِلَى الْأَرْضِ مَجَازٌ، إِذِ الْمُنْبِتُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ فِيهَا قَابِلِيَّةَ الْإِنْبَاتِ نَسَبَ الْإِنْبَاتَ إِلَيْهَا.

مِنْ بَقْلِها: هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، عَلَى إِعَادَةِ حَرْفِ الجرّ،


(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>