مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ شَغَلَهُ النَّظَرُ فِيهِ وَامْتِثَالُ تَكَالِيفِهِ وَفَهْمُ مَعَانِيهِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا. وَمَدُّ الْعَيْنِ لِلشَّيْءِ إِنَّمَا هُوَ لِاسْتِحْسَانِهِ وَإِيثَارِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا تَتَمَنَّ مَا فَضَّلْنَا بِهِ أَحَدًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَزْوَاجًا مِنْهُمْ، أَيْ رِجَالًا مَعَ نِسَائِهِمْ، أَوْ أَمْثَالًا فِي النِّعَمِ، وَأَصْنَافًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى والمشرين أَقْوَالٌ. وَنَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّفَقَةِ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ، وَادًّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ كُلُّهُمْ، فَكَانَ يَلْحَقُهُ الْحُزْنُ عَلَيْهِمْ. نَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْحُزْنِ عَمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَأَمَرَهُ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ لِمَنْ آمَنَ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّلَطُّفِ وَالرِّفْقِ.
وَأَصْلُهُ: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا ضَمَّ الْفَرْخَ إليه بسط جناحه لم ثُمَّ قَبَضَهُ عَلَى فَرْخِهِ، وَالْجَنَاحَانِ مِنِ ابْنِ آدَمَ جَانِبَاهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَ أَنَّهُ هُوَ النَّذِيرُ الْكَاشِفُ لَكُمْ مَا جِئْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ تَعْذِيبِكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَإِنْزَالِ نِقَمِ اللَّهِ الْمَخُوفَةِ بِكُمْ. وَالْكَافُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ أَيْ: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِعِنَادِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ: بَعْضُهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لَهُمَا، فَاقْتَسَمُوهُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَعَصَوْهُ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ لِي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ لِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُرْآنِ مَا يقرأونه مِنْ كُتُبِهِمْ، وَقَدِ اقْتَسَمُوهُ بِتَحْرِيفِهِمْ، وَبِأَنَّ الْيَهُودَ أَقَرَّتْ بِبَعْضِ التَّوْرَاةِ وَكَذَّبَتْ بِبَعْضٍ، وَالنَّصَارَى أَقَرَّتْ بِبَعْضِ الْإِنْجِيلِ وَكَذَّبَتْ بِبَعْضٍ، وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَنِيعِ قَوْمِهِ بِالْقُرْآنِ وَتَكْذِيبِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: سِحْرٌ، وَشِعْرٌ، وَأَسَاطِيرُ، بِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ فَعَلُوا بِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ نَحْوَ فِعْلِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، وَأَنْذِرْ قُرَيْشًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ يَعْنِي:
الْيَهُودَ، هُوَ مَا جَرَى عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، جَعَلَ الْمُتَوَقَّعَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ، وَهُوَ مِنَ الْإِعْجَازِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَكُونُ وَقَدْ كَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ مَنْصُوبًا بِالنَّذِيرِ أَيْ: أَنْذِرِ الْمُعْضِينَ الَّذِينَ يُجَزِّؤُونَ الْقُرْآنَ إِلَى سِحْرٍ وَشِعْرٍ وَأَسَاطِيرَ مثل ما أنزلنا على الْمُقْتَسِمِينَ وَهُمُ: الِاثْنَا عَشَرَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَقَعَدُوا فِي كُلِّ مَدْخَلٍ مُتَفَرِّقِينَ لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: لَا تَغْتَرُّوا بِالْخَارِجِ مِنَّا فَإِنَّهُ سَاحِرٌ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: كَذَّابٌ، وَالْآخَرُ: شَاعِرٌ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَبْلَهُ بِآفَاتٍ: كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَغَيْرِهِمْ. أَوْ مِثْلَ مَا أَنْزَلَنَا عَلَى الرَّهْطِ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا عَلَى أَنْ يُبَيِّتُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالِاقْتِسَامُ بِمَعْنَى التَّقَاسُمِ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا عَلَّقْتَ قَوْلَهُ كَمَا أَنْزَلْنَا بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ فَمَا مَعْنَى تَوَسُّطِ لَا تَمُدَّنَّ إِلَى آخِرِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute