للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّ الْمُحَاجَّةَ لَيْسَتْ عِلَّةً لِلْفَتْحِ، إِنَّمَا الْمُحَاجَّةُ نَاشِئَةٌ عَنِ التَّحْدِيثِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الصَّيْرُورَةِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى، فَيُمْكِنَ أَنْ يَصِيرَ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ حَدَّثُوا بِهِ، فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ حَاجُّوهُمْ بِهِ، فَصَارَ نَظِيرَ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «١» . لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِهَذَا الْأَمْرِ، إِنَّمَا آلَ أَمْرُهُ إِلَى ذَلِكَ. وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ لَامَ الصَّيْرُورَةِ، جَعَلَهَا لَامَ كَيْ، عَلَى تَجَوُّزٍ، لِأَنَّ النَّاشِئَ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ، كَالْعِلَّةِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ، وَبَيْنَ: بِمَا فَتَحَ، إِلَّا أَنَّ جَعْلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْأَوَّلِ أَقْرَبُ وَسَاطَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ فَيُحَاجُّوكُمْ. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ أَبْعَدَ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِهِ، فَحَدَّثْتُمُوهُمْ بِهِ، فَحَاجُّوكُمْ. فَالْأَوْلَى جَعْلُهُ لِأَقْرَبِ وَسَاطَةٍ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: بِما فَتَحَ اللَّهُ، وَبِهَذَا يَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، لِأَنَّ المصدرية لا يعود عليها ضَمِيرٌ.

عِنْدَ رَبِّكُمْ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: لِيُحَاجُّوكُمْ، وَالْمَعْنَى: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. فَكَنَّى بِقَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكُمْ عَنِ اجْتِمَاعِهِمْ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ «٢» . وَقِيلَ: مَعْنَى عِنْدَ رَبِّكُمْ: فِي رَبِّكُمْ، أَيْ فَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهِ جَعَلَ عِنْدَ بِمَعْنَى فِي. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ ذِكْرِ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ جَعَلَ الْمُحَاجَّةَ فِي كِتَابِكُمْ مُحَاجَّةً عِنْدَ اللَّهِ، أَلَا تُرَاكَ تَقُولُ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَذَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَا، بِمَعْنًى وَاحِدٍ؟ وَقِيلَ: هُوَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ، وَهُوَ بَعْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْذُ مِيثَاقِهِمْ بِتَصْدِيقِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِمْ هُوَ بِمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا.

انْتَهَى. وَالْأَوْلَى حَمْلُ اللفظ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَقَدْ أمكن بحمل قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكُمْ عَلَى بَعْضِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَأَمَّا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الذَّاهِبُ، فيبعد جِدًّا، لِأَنَّ لِيُحَاجُّوكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ، وَعِنْدَ رَبِّكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَتَكُونُ قَدْ فَصَلْتَ بَيْنَ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَبَيْنَ الْعَامِلِ فِيهِ الَّذِي هُوَ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، بِقَوْلِهِ: لِيُحَاجُّوكُمْ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُمَا، إِذْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:

أَتُحَدِّثُونَهُمْ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ هَذَا التَّرْكِيبُ هَكَذَا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، فَكَيْفَ يَجِيءُ فِي كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ؟.

أَفَلا تَعْقِلُونَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا يَكُونُ حُجَّةً


(١) سورة القصص: ٢٨/ ٨.
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>