كَانَ عِنْدَهُ مَوْصُولًا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ اذْهَبَا بِآيَاتِنَا. كَمَا عَلَّقَ فِي تِسْعِ آيات باذهب، أَوْ عَلَى الْبَيَانِ، فَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، وَهَذِهِ أَعَارِيبُ مَنْقُولَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا جَوَابُهُ فَلا يَصِلُونَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ لَغْوِ الْقَسَمِ.
انْتَهَى. أَمَّا إِنَّهُ قَسَمٌ جَوَابُهُ فَلا يَصِلُونَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ لَا تَدْخُلُهُ الْفَاءُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ مِنْ لَغْوِ الْقَسَمِ، فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ جواب، بل حذف لدلالة عَلَيْهِ، أَيْ بِآيَاتِنَا لَتَغْلِبُنَّ.
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ، وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ، وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
بِآياتِنا: هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ. بَيِّناتٍ: أَيْ وَاضِحَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ خَارِقٌ مُعْجِزٌ، كَفُّوا عَنْ مُقَاوَمَتِهِ وَمُعَارَضَتِهِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْبُهْتِ وَالْكَذِبِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ سِحْرٌ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّيْءَ عَلَى حَالَةٍ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، فَزَعَمُوا أَنَّهُ سِحْرٌ يَفْتَعِلُهُ مُوسَى وَيَفْتَرِيهِ عَلَى اللَّهِ، فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ. ثُمَّ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ سِحْرٌ مُفْتَرًى، وَكَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ، أَرَادُوا فِي الْكَذِبِ أَنَّهُمْ مَا سَمِعُوا بِهَذَا فِي آبَائِهِمْ، أَيْ فِي زَمَانِ آبَائِهِمْ وَأَيَّامِهِمْ. وَفِي آبَائِنَا: حَالٌ، أَيْ بِهَذَا، أَيْ بِمِثْلِ هَذَا كَائِنًا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا. وَإِذَا نَفَوُا السَّمَاعَ لِمِثْلِ هَذَا فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ، ثَبَتَ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُوسَى هُوَ بِدْعٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُفْتَرًى عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ، وطرق سمعهم أَخْبَارَ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ مُوسَى فِي الزَّمَانِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ «١» ؟
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٣٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute