للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وخشي رسول الله أَنْ يَلْحَقَهُ قَوْلٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَنْ يَتَزَوَّجَ زَيْنَبَ بَعْدَ زَيْدٍ، وَهُوَ مَوْلَاهُ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي شَيْءٍ قَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ بِأَنْ قَالَ: أَمْسِكْ، مع علمه أن يُطَلِّقُ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْخَشْيَةِ، أَيْ فِي كُلِّ حَالٍ. انْتَهَى. وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ

، هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، كَالزُّهْرِيِّ، وَبَكْرِ بْنِ الْعَلَاءِ، وَالْقُشَيْرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَتَخْشَى النَّاسَ، إِنَّمَا هُوَ إِرْجَافُ الْمُنَافِقِينَ فِي تزويج نساء الأبناء، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ.

وَلِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ كَلَامٌ فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي النَّقْصَ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، ضَرَبْنَا عَنْهُ صَفْحًا.

وَقِيلَ قَوْلُهُ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ: خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ، فَإِنَّهُ أَخْفَى الْمَيْلَ إِلَيْهَا، وَأَظْهَرَ الرَّغْبَةَ عَنْهَا، لَمَّا تَوَهَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ مِنْ نِسَائِهِ. انْتَهَى.

وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، وَبَعْضُهُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بِمَا فِيهِ غَيْرُ صَوَابٍ مِمَّا جَرَى فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَرْتُ مِنْهُ مَا أَنِصُّهُ. قَالَ: كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَتَحَفَّظُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ وَيَسْتَحْيِي مِنْ إِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ مُتَّسِعٌ وَحَلَالٌ مُطْلَقٌ، لَا مَقَالَ فِيهِ وَلَا عَيْبَ عِنْدَ اللَّهِ. وَرُبَّمَا كَانَ الدُّخُولُ فِي ذَلِكَ الْمُبَاحِ سُلَّمًا إِلَى حُصُولِ وَاجِبَاتٍ، لِعِظَمِ أَثَرِهَا فِي الدِّينِ، وَيَجِلُّ ثَوَابُهَا، وَلَوْ لَمْ يُتَحَفَّظْ مِنْهُ، لَأَطْلَقَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِيهِ أَلْسِنَتَهُمْ، إِلَّا مَنْ أُوتِيَ فَضْلًا وَعِلْمًا وَدِينًا وَنَظَرًا فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَلُبَابِهَا دُونَ قُشُورِهَا.

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا طَمِعُوا فِي بُيُوتِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَقَوْا مُرْتَكِزِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ لَا يُدِيمُونَ مُسْتَأْنِسِينَ بِالْحَدِيثِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْذِيهِ قُعُودُهُمْ، وَيُضِيقُ صَدْرَهُ حَدِيثُهُمْ، وَالْحَيَاءُ يَصُدُّهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِانْتِشَارِ حَتَّى نَزَلَتْ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ.

وَلَوْ أَبْرَزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْنُونَ ضَمِيرِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْتَشِرُوا، لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، وَلَكَانَ بَعْضُ الْمَقَالَةِ. فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ، لِأَنَّ طُمُوحَ قَلْبِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَعْضِ مُشْتَهِيَاتِهِ، مِنَ امْرَأَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْقُبْحِ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الشَّرْعِ. وَتَنَاوُلُ الْمُبَاحِ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ بِقَبِيحٍ أَيْضًا، وَهُوَ خِطْبَةُ زَيْنَبَ وَنِكَاحُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِنْزَالِ زَيْدٍ عَنْهَا، وَلَا طَلَبٍ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَرًا عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْزِلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَنِ امْرَأَتِهِ لِصَدِيقِهِ، وَلَا مُسْتَهْجَنًا إِذَا نَزَلَ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا الْآخَرُ. فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ دَخَلُوا المدينة، استهم الْأَنْصَارُ بِكُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ نَزَلَ عَنْ إِحْدَاهُمَا وَأَنْكَحَهَا الْمُهَاجِرَ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ مُبَاحًا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْقُبْحِ، وَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>