للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَطَوَّلُوا فِي ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَتَضَمَّنْهَا الْقُرْآنُ وَلَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَبَعْضُهَا يُنَاقِضُ بَعْضًا، وَذَلِكَ عَلَى جَرْيِ عَادَاتِهِمْ فِي نَقْلِ مَا دَبَّ وَمَا دَرَجَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ إِلَّا عَلَى مَا صَحَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَصِحُّ من هَذَا كُلِّهِ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِرَفْعِ الْقَوَاعِدِ مِنَ الْبَيْتِ وَنُشَاحُّهُ فِي قَوْلِهِ: أَمَرَ، إِذْ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ. الْقَواعِدَ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَهَلْ هِيَ الْأَسَاسُ أَوِ الْجُدُرُ؟ فَإِنْ كَانَتِ الْأَسَاسَ، فَرَفَعَهَا بِأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا، فَتَنْتَقِلُ مِنْ هَيْئَةِ الِانْخِفَاضِ إِلَى هَيْئَةِ الِارْتِفَاعِ، وَتَتَطَاوَلٍ بَعْدَ التَّقَاصُرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا سَاقَاتِ الْبِنَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا قُعِّدَ مِنَ البيت، أي استوطىء، يَعْنِي جَعَلَ هَيْئَةَ الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَوْطَأَةِ مُرْتَفِعَةً عَالِيَةً بِالْبِنَاءِ.

مِنَ الْبَيْتِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ متعلقا بيرفع، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرِهِ: كَائِنَةٌ مِنَ الْبَيْتِ. وَلَمْ تُضَفِ الْقَوَاعِدُ إِلَى الْبَيْتِ، فَكَانَ يَكُونُ الْكَلَامُ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ، لِمَا فِي عَدَمِ الْإِضَافَةِ مِنَ الْإِيضَاحِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِ الْمُبَيَّنِ. وَإِسْماعِيلُ: مَعْطُوفٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الرَّفْعِ. قِيلَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مَعًا، وَهَذَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ طِفْلٌ صَغِيرٌ إِذْ ذَاكَ، كَانَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ إِذْ ذَاكَ طِفْلًا صَغِيرًا

، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَمَنْ جَعَلَ الْوَاوَ فِي وَإِسْمَاعِيلُ وَاوَ الْحَالِ، أَعْرَبَ إِسْمَاعِيلَ مُبْتَدَأً وَأَضْمَرَ الْخَبَرَ، التَّقْدِيرُ: وَإِسْمَاعِيلُ يَقُولُ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، فَيَكُونُ إِبْرَاهِيمُ مُخْتَصًّا بِالْبِنَاءِ، وَإِسْمَاعِيلُ مُخْتَصًّا بِالدُّعَاءِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْعَطْفِ، جَعَلَ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَائِدٍ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ مَعًا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: وَإِذْ يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ قَائِلِينَ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ الْعَطْفَ فِي وَإِسْمَاعِيلُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ يَقُولَانِ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْعَامِلَ فِي إِذْ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمَا دَعَوْا بِذَلِكَ الدُّعَاءِ وَقْتَ أَنْ شَرَعَا فِي رَفْعِ الْقَوَاعِدِ، وَفِي نِدَائِهِمَا بِلَفْظِ رَبَّنَا تَلَطُّفٌ وَاسْتِعْطَافٌ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ بِحَالِ الدَّاعِي.

رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا: أَيْ أَعْمَالَنَا الَّتِي قَصَدْنَا بِهَا طَاعَتَكَ، وَتَقَبَّلْ بِمَعْنَى: اقْبَلْ، فَتَفَعَّلْ هُنَا بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ كَقَوْلِهِمْ: تَعَدَّى الشيء وَعَدَّاهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جاء لها تفعل.

<<  <  ج: ص:  >  >>