للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الضَّحَّاكُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ فِي الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّخُولِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. أَوْ: فِي الْمُنَافِقِينَ، وَاحْتُجَّ لِهَذَا بِوُرُودِهَا عُقَيْبَ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ اخْتَلَفَتْ أَقَاوِيلُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ السِّينِ فِي السِّلْمِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفَالِ:

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ «١» وَفِي الْقِتَالِ: وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ «٢» .

وَاخْتُلِفَ فِي السَّلْمِ هُنَا، فَقِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ: قَدْ يُسَمَّى: سِلْمًا بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَدْ يُرْوَى فِيهِ الْفَتْحُ، كَمَا رُوِيَ فِي السَّلْمِ الَّذِي هُوَ الصُّلْحُ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ، إِلَّا أَنَّ الْفَتْحَ فِي السَّلْمِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ قَلِيلٌ، وَجَوَّزَ أبو علي الفارسي أن يَكُونَ السَّلْمُ هُنَا هُوَ الَّذِي بِمَعْنَى الصُّلْحِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ صُلْحٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِتَالَ بَيْنَ أَهْلِهِ، وَأَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ؟ فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِابْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَدْ أُمِرُوا بِالدُّخُولِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ لَا يَبْقَوْا عَلَى شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي لَا تُوَافِقُ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ، فَالْمَعْنَى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا سَبَقَ مِنْ أَنْبِيَائِهِمُ ادْخُلُوا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا مَنْ سَبَقَ لَهُ الْإِيمَانُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهُمَا دَالَّانِ عَلَى صِدْقِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، ادْخُلُوا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فَالْمَعْنَى: يَا مَنْ آمَنَ بِقَلْبِهِ، وَصَدَّقَ، ادْخُلْ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَاجْمَعْ إِلَى الْإِيمَانِ الْإِسْلَامَ. وَقَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُنَافِقِينَ، فَالْمَعْنَى: يَا مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، ادْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ بِالْقَلْبِ حَتَّى يُطَابِقَ الْقَوْلُ الِاعْتِقَادَ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أُمِرُوا بِامْتِثَالِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، أَوْ بِالِانْقِيَادِ، وَالرِّضَى وَعَدَمِ الِاضْطِرَارِ، أَوْ بِتَرْكِ الِانْتِقَامِ، وَأُمِرُوا كُلُّهُمْ بِالِائْتِلَافِ وَتَرْكِ الِاخْتِلَافِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِقَوْلِهِ كَافَّةً وَانْتِصَابُ كَافَّةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي:

ادْخُلُوا، وَالْمَعْنَى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ جَمِيعًا، وَهِيَ حَالٌ تُؤَكِّدُ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَتُفِيدُ مَعْنَى:

كُلٍّ، فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ النَّاسُ كَافَّةً، فَالْمَعْنَى قَامُوا كُلُّهُمْ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ السِّلْمِ، أَيْ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، أُمِرُوا بِأَنْ لَا يَدْخُلُوا فِي طَاعَةٍ دُونَ طَاعَةٍ.


(١) سورة الأنفال: ٨/ ٦١.
(٢) سورة محمد: ٤٧/ ٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>