للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بدنه الشريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدمي مثله، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه آيات على ما يتضح من عظيم خلق نفسه الكريمة، وما يتضح من عظيم أخلاق نفسه آيات على ما تحقق له من سر قلبه المقدّس، ولله در الأبوصيري حيث قال:

فهو الذي تَمَّ معناه وصورته ... ثم اصطفاه حبيبًا بارئ النسم

منزه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم


تقدير "بدنه الشريف على وجه"، أي: حال وهيئة، "لم يظهر قبله، ولا بعده خلق آدمي مثله، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه"، أي: الصفة الظاهرة، "آيات على ما يتضح"، أي: ينكشف ويظهر "من عظيم خلق نفسه الكريمة، وما يتضح من عظيم أخلاق نفسه"، بيان لما, فأشار إلى أن المراتب ثلاث: المشاهد دليل على الباطن، وذلك الباطن دليل على ما أودع في قلبه من العلوم والمعارف، كما أفاده بقوله: "آيات على ما تحقَّق" بفتح التاء: ثبت وصحَّ "له من سرّ قلبه المقدَّس"، أي: ما اشتمل عليه من المعاني البديعة، فوصف المعاني بكونها مكنونة لا يُطَّلَع عليها، ولكن يستدل عليها بما ظهر من أخلاقه وكمالاته، وهو -صلى الله عليه وسلم- وإن ظهر منه كمالات لا تحصى، فهي بالنسبة لما خفي، كنقطة من بحر، "ولله در الأبوصيري" محمد بن سعيد الصنهاجي، الدلاصي لمولد، المغربي الأصل، البوصيري المنشأ، ولد بدلاص أول شوال، سنة ثمان وستمائة، وبرع في النظم.
قال فيه الحافظ ابن سيد الناس: هو أحسن من الجزار والوراق، ومات سنة خمس، أو أربع وتسعين وستمائة، كان أحد أبويه من بوصير الصعيد، والآخر من دلاص -بفتح الدال المهملة: قرية بالبهنسا، فركبت النسبة منهما، فقيل: الدلاصيري، ثم اشتهر بالبوصيري، لنشأته بها، أو لأنها بلد أبيه، فقوله: الأبوصيري منتقد؛ لأن القرية إنما هي بوصير، والنسبة إليها البوصيري، كما في المراصد واللباب، ولبه في باب الموحدة لا الهمزة، وفي نسخة: الأبي صيري -بالياء، ولا وجه له، لا إفرادًا ولا تكريبًا، "حيث قال: فهو الذي تَمَّ" كمل "معناه" حال باطنه "وصورته"، حال ظاهره، بالرفع عطفًا على معناه، والنصب مفعول معه، "ثم اصطفاه" اختاره "حبيبًا بارئ" خالق "النسم"، جمع نسمة -بفتحتين: وهي الإنسان، وثم للترتيب في الأخبار، كما قال الأنصاري، نظرًا لما قبل وجوه، فإنه في الأزل تعلق علمه بكماله معنًى وصورته، وإنه حبيبه، فهو ترتيب في الأخبار دون الصفات؛ أو في الاصطفاء، كما قال المحلى نظرًا للوجود الخارجي، فإن اتخذه حبيبًا، ومخاطبته به بعد تمام معناه، صورته "منزه" مبعد "عن شريك في محاسنه"، جمع محسن، بمعنى: الحسن، أي: لا شريك له في حسنه، "فجوهر

<<  <  ج: ص:  >  >>