للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا.

وقوله: "ليس بفظ ولا غليظ" موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: ١٥٩] ولا


"ولا غليظ" قاسي القلب، "ولا سخاب" "بسين مهملة وخاء معجمة ثقيلة" لغة أثبتها الفراء وغيره بالصاد، أشهر من السين، بل ضعفها الخليل، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه، ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه ويرفق بهم، وفيه ذم أهل السوق، الذين يكونون بالصفة المذمومة من صخب ولغط، وزيادة مدحه لما يبيعونه، وذم لما يشترونه، والإيمان الحانثة، ولذا كانت شر البقاع لما يغلب على أهلها من هذه الأحوال المذمومة، وقيد بالأسواق، والمراد نفيه عنه مطلقًا؛ لأنه إذا انتفى في المحل المعتاد فيه، انتفى في غيره بالطريق الأولى، وهذا أبلغ وأفصح من الإطلاق؛ لأنه نفي بدليل نحو قوله: لا ترى الضب بها ينحجر، فهو من نفي المقيد دون قيده، "ولا يجزي بالسيئة مثلها" أي: السيئة، "ولكن يعفو ويصفح" يعرض ما لم تنتهك حرمات الله، "ولن يقبضه" يميته "الله حتى يقيم به الملة العوجاء" ملة إبراهيم، فإنها اعوجت في الفترة، فزيدت، ونقصت، وغيرت عن استقامتها، وأميلت بعد قوامها، وما زالت كذلك حتى أقامها صلى الله عليه وسلم بنفي الشرك وإثبات التوحيد، كما قال: "حتى يقولوا: لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله، فالمراد كلمة التوحيد.
هكذا فسر شراح الحديث قاطبة: الملة العوجاء بملة إبراهيم، وكذا ابن الأثير في النهاية، قائلًا: إن العرب كانوا يزعمون أنهم على ملته، وأبعد من قال؛ أنها الملة التي رآها خارجة عن الحق، فأزال اعوجاجها، وإن لم تنسب إلى إبراهيم، كملة اليهود والنصارى، فإنهم حرفوا وبدلوا، ولم يتركوا ما نسخ من شرعهم، فجاهدهم حتى اهتدى من اهتدى، وقتل من قتل، "ويفتح به" بالنبي.
وفي رواية البخاري بها، أي: بكلمة التوحيد "أعينا عميًا" "بضم العين وسكون الميم صفة لا عين، أي: عن الحق، "وآذانًا صمًا" عن استماع الحق، "وقلوبًا غلفًا" "بضم المعجمة وسكون اللام صفة قلوبًا جمع أغلف، أي: مغطى ومغشى، "وقوله: ليس بفظ ولا غليظ، موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا} زائدة، أي: فبـ {رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي: سهلت أخلاقك حيث خالفوك {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} جافيًا، فأغلظت لهم {لَانْفَضُّوا} تفرقوا {مِنْ حَوْلِكَ}

<<  <  ج: ص:  >  >>