للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث إني "لا أنسى" لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وهي أربعة، قاله ابن عبد البر. وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شيء، فإن


كذا في النسخ، والمروي في الصحيحين: "آية كيت وكيت بل هو نسي"، الحديث بتحتية ففوقية كلمتان يعبر بهما عن الجمل الكثيرة والحديث الطويل، وسبب الذم ما في ذلك من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال: نسيت، كأنه شهد على نفسه بالتفريط، فتعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد لأنه يورث النسيان.
وقوله: "بل هو نسي" بضم النون وشد السين المكسورة في جميع روايات البخاري، وأكثر الروايات في غيره وهو أضراب عن نسبة النسيان إلى النفس المسبب عن الترك، لأنه يوهم أنه انفرد بفعله، فالذي ينبغي أن يقول: أنسيت أو نسيت مبني للمفعول، أي: أن الله هو الذي أنساه، لأن نسبة الأفعال إلى خالقها إقرار بالعبودية والاستسلام للقدرة، وإن جازت نسبتها إلى مكتسبها، وقيل: معناه عوقب بالنسيان لتفريطه في تعاهده، وقيل: فاعل نسيت النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: لا يقل أحد عني أني نسيت، فإن اله هو الذي أنساني ما نسخه ورفع تلاوته، ولا صنع لي في ذلك.
ورواه بعض رواة مسلم: بل نسي بخفة السين، أي: تركه الله غير ملتفت إليه، كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: ٩] ، أي: تركهم من الرحمة، أو تركهم في العذاب.
"وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث: "إني لا أنسى" لا أصل له" يعتد به في إثبات الأحكام، وليس المراد أنه باطل لمنافاته قوله: "فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث" التفتيش "الشديد" عمن وصلها، والبلاغ من أقسام الضعيف لا الباطل معاذ الله، لا سيما من مالك "وهي أربعة، قاله ابن عبد البر" أي: قال وهي أربعة، ولم يقع في كلامه التعبير بلا أصل له كما عبر المصنف تبعا للحافظ، بل قال في شرح هذا الحديث: هو أحد الأحاديث الأربعة التي في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول.
وقال في أوائل شرحه: إن بلاغات مالك كلها تتبعت فوجدت موصولة إلا أربعة، أولها هذا، وثانيها في الاستسقاء: إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة، وثالثها في الصيام قول مالك سمعت ممن أثق به أنه صلى الله عليه وسلم أرى الناس قبله وما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر، رابعها: في كتاب الجامع خبر معاذ آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله علي وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: "حسن خلقك للناس". انتهى.

<<  <  ج: ص:  >  >>