للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وآخره، وباطن الدَّين وظَاهره.

وأمَّا النَّوْع الثَّانِي: فَهُو الفناء عَنْ شُهُود السِّوى، وهَذَا يحصل لكثير من السَّالكين؛ فَإِنَّهُم لفرط انجذاب قُلُوبهم إِلَى ذكر الله وعبادته ومحبته وضعف قُلُوبهم عَنْ أَنْ تَشهد غير مَا تعبد، وترى غير مَا تقصد- لَا يخْطر بقلوبهم غير الله، بل ولَا يَشْعُرُونَ إِلَّا بِهِ، كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا إِنْ كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَنْ ربطنا على قَلبهَا﴾ [القَصَص: ١٠]، قَالُوا: فَارغًا من كل شَيْء إِلَّا من ذكر مُوسَى. وهَذَا كثيرًا مَا يعرض لمن دهمه أَمر من الأُمُور؛ إِمَّا حب، وإِمَّا خوف، وإِمَّا رَجَاء؛ يبْقى قلبه منصرفًا عَنْ كل شَيْء، إِلَّا عَمَّا قد أحبَّه أَوْ خافه أَوْ طلبه؛ بِحَيْثُ يكون عِنْد استغراقه فِي ذَلِك لَا يشْعر بِغَيْرِهِ.

فَإِذا قوي على صَاحب الفناء هَذَا، فَإِنَّهُ يَغيب بموجوده عَنْ وجوده، وبمشهوده عَنْ شُهُوده، وبمذكوره عَنْ ذِكره، وبمعروفه عَنْ مَعْرفَته، حَتَّى يَفنى مَنْ لم يكن، وهِي المَخْلُوقَات؛ العَبْد فَمن سواهُ، ويبقى مَنْ لم يزل، وهُو الرب تَعالَى. والمرَاد: فناؤها فِي شُهُود العَبْد وذِكره، وفناؤه عَنْ أَنْ يُدْرِكهَا أَوْ يشهدها، وإِذا قوي هَذَا ضعف المُحب حَتَّى يضطرب فِي تَمْيِيزه، فقد يظنُّ أَنه هُو محبوبه، كَمَا يُذكر «أَنْ رجلًا ألقى نَفسه فِي اليم، فَألقى مُحِبُّه نَفسه خَلفه، فَقَالَ: أَنا وقعتُ، فَمَا أوقعك خَلفي؟ قَالَ: غِبْتُ بك عني؛ فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي».

وهَذَا الموضع زَلَّت فِيهِ أَقوامٌ، وظنوا أَنَّه اتِّحَاد، وأَنَّ المُحب يتحد بالمحبوب، حَتَّى لَا يكون بَينهمَا فرقٌ فِي نفس وجودهما. وهَذَا غلط؛ فَإِنْ الخَالِق لَا يتحد بِهِ شَيْء أصلًا، بل لَا يُمكن يَتَّحد شَيْء بِشَيءٍ، إِلَّا إِذا استحَالَا وفسدت حَقِيقَة كلٍّ مِنْهُمَا، وحصل

<<  <   >  >>