رجلاً قال: يا رسول الله؛ أرسل ناقتي وأتوكل، أو أعقلها وأتوكل؟ فقال:"اعقلها وتوكل" رواه البيهقي وغيره.
وروى معاوية بن قرة: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أتى على قوم فقال: (ما أنتم؟ ) فقالوا: نحن المتوكلون، فقال:(بل أنتم المتكلون، ألا أخبركم بالمتوكلين؟ رجل ألقى حبة في بطن الأرض ثم توكل على ربه) قال البيهقي: يعني المتوكلين على أموال الناس.
وقال الجنيد: ليس التوكل الكسب ولا ترك الكسب، التوكل: سكون القلب إلى موعود الله، قال البيهقي: فعلى هذا ينبغي ألا يكون تجريد هذا السكون عن الكسب شرطاً في التوكل، بل هو مكتسب بظاهر العلم يعتمد بقلبه على الله تعالى؛ كما قال بعضهم: أكتسب ظاهراً وتوكل باطناً، فهو مع كسبه لا يكون معتمداً على كسبه، بل معتمداً في كفاية أمره على الله تعالى.
وطالب التجريد عن الأسباب الشاغلة عن الله تعالى وهو قد أقامه في الأسباب التي هي الحرف والبيعات التي يصون بها وجهه عن الابتذال بالسؤال، وحفظاً لعزة نفسه عن منن المخلوقين ألا يمن عليك أحد اشترى منك، أو أستأجرك على عمل شيء له، وفي القيام بالأسباب رحمة للمتجردين عنها المتوجهين لطاعة ربهم، فلولا قيام أهل الأسباب .. لما صح لصاحب الخلوة خلوته ومجاهدته لعبادة ربه، فإن الله تعالى جعل أهل الأسباب كالخدمة للمقبلين عليه، فطلب التجريد مع إقامته في الأسباب من الشهوة الخفية الداعية إلى طلب الراحة، وإنما كانت من الشهوة؛ لعدم وقوفه مع الله تعالى من إقامته إياه فيما أقامه فيه.
وعلامة إقامته في الأسباب أن تحصل له ثمرته ونتيجته؛ بأن يجد في حال تشاغله بالأسباب سلامة في دينه، وقطعاً لطعمه فيما عند غيره، وحسن نية في صلة رحم بما يتسبب به، وإعانة فقير معدم، أو متجرد مقبل على الله، وغير ذلك من فوائد المال المتعلقة بصلاح الدين.
وذو تجريد؛ أي: من أقامه الله تعالى في التجريد عما يشغل عن الله تعالى، إذا طلب الخروج منه، والدخول في الأسباب والاهتمام بتحصيلها .. فهو انحطاط، ونزول عم ذروة العز العلية إلى الرتبة الدنية، وسوء أدب مع الله تعالى؛ لما فيه من مصادمة الربوبية بالتدبير معه، ولعله لا يقع كثير مما قصده.