[الصلاة أمنية الأموات والمعذبين]
الصلاة أمنية الأموات والمعذبين، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر دفن حديثاً فقال: ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم).
قوله: (ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون) أي: مما تزهدون فيهما.
قوله: (أحب إلى هذا) يعني: لو أنه خيِّر بين أن يرجع إلى الدنيا من جديد، ويعطى كل ما بقي من الدنيا من الكنوز والأموال إلى أن تقوم الساعة ويصير ملكاً له، وبين أن يعود إلى الدنيا ويركع ركعتين خفيفتين من النوافل الخفيفة مما يحتقرها الناس ويزهدون في ثوابهما؛ لاختار قطعاً وجزماً أن يصلي هاتين الركعتين؛ لأنه عاين ثواب مثل هذه العبادة الجليلة.
ومما ينفع في مثل هذا الموطن أن يتذكر الإنسان حبيباً إليه، أباه، أخاه، صديقه، قريبه الذي مات، ويتخيل أن هذا فلان ابن فلان بشحمه ولحمه، فلو خير هذا الخيار لقطع جزماً بأنه سيختار أن يصلي هاتين الركعتين ثم يدفن ثانية، من أجل أن يزيد في ثوابه هاتين الركعتين.
قال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق! انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهداً، فانطلقت معه، فأتى إلى المقابر، فجلسنا إلى بعض تلك القبور فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنياً لو مني؟ قلت: أن يرد والله إلى الدنيا، فيستمتع من طاعة الله ويصلح، قال: فها هي الفرصة ما زالت معنا، فهذا مات ونحن ما زلنا، ثم نهض فجد واجتهد فلم يلبث يسيراً حتى مات رحمه الله تعالى.
فالموت هو الفيصل بين هذه الدار وبين دار القرار، وهو الحد الفارق بين دار الامتحان وبين دار ظهور النتائج، فليس بعده لأحد من مستعتب ولا اعتبار، ولا يمكن الزيادة في الحسنات بعد الموت ولا النقص من السيئات، ولا حيلة ولا افتداء ولا درهم ولا دينار، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠].
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:٩ - ١١].
تخيلوا أن عامة المسلمين الذين ماتوا من قبل سمعوا هذا الكلام كثيراً، سمعوه في القرآن، وسمعوه في الدروس، وقرءوه في الكتب، فمن انتفع لما سمع هذا الكلام وأصلح حاله؛ فاز فوزاً عظيماً، ومن مرت عليه مرور الكرام ندم ندماً شديداً؛ لأنه قبل الموت كانت عنده المهلة، ونحن كذلك سيأتي بعدنا ناس يتلون نفس الآيات، ويتلون نفس الأحاديث، بعد عشر سنين عشرين سنة مائة سنة ومع الناس ينقسمون: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:٤].
فينبغي أن يحذر الإنسان، فليس لنا عذر أمام الله سبحانه وتعالى، فما زالت القلوب فينا تنبض، وعضلاتك إذا أردت أن تحركها لكي تذهب إلى المسجد ستطيعك، ولسانك إذا أعملته في ذكر الله لن يقول لك: لا، فأنت الآن أمامك المهلة والفرصة فلا تضيعهما، وانتفع بهذا الوعظ فإنك أنت أنت المراد به.
يقول تبارك وتعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:٤٤].
إذاً: أمنية الموتى والمعذبين يوم القيامة أن يردوا إلى الدنيا ولو بقدر ركعتين.
قوله: (هل إلى مرد من سبيل) أي: هم يسألون الرجعة عند الاحتضار، وكذلك يسألونها إذا وقفوا على النار، قال جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:٢٧].
وكذا يتمنون الرجعة إذا وردوا على ربهم: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:١٢]، هل ينفع هذا اليقين في الآخرة؟ لا، فهم رغم أنفهم أيقنوا؛ لأنهم عاينوا الغيب وصار شهادة، أما اليقين الذي ينجي فهو الإيمان بالغيب في دار الدنيا ودار الامتحان.
أيضاً يتكرر سؤالهم الرجعة وهم في غمرات الجحيم، يقول تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:٣٧] ويأتي
الجواب
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:٣٧] قوله: (أولم نعمركم) أي: ألم نعطكم الفرصة وطولنا لكم في العمر؟! قوله: (مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي: عمرتم عمراً كان لكل منكم فيه فرصة كافية ليتذكر ويتوب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد أعذر الله إلى رجل أجّله حتى بلغ ستين سنة) يعني: لقد أعذر الله من مد في عمره إلى هذا القدر ولم يتب ولم يرجع.
قوله: (وجاءكم النذير) يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال بعض المفسرين: هو الشيب الذي يزحف إلى شعر الرأس وغيره، فإذا بدأ الإنسان يتقدم في العمر وظهر منه الشيب، فهذا عبارة عن إنذار من الله سبحانه وتعالى بأنه قد اقترب من النهاية، واقترب من الوصول إلى المحطة الأخيرة.
وقال سبحانه: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:١١].
وقال قتادة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠]: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه-أي: سأله الإقالة- فأقاله، فليعمل بطاعة ربه تعالى.
وقال قتادة: والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا إلى أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
من أجل ذلك أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) إذ هي أيام وأحوال العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد، فمن فاته العمل فيها لم يدركه عند مجيء أضدادها، ولا ينفعه التمني للأعمال بعد التفريط والإهمال في زمن الفرصة والإمهال، ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات، فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات، ويطلب الكرة وهيهات، وتعظم حسراته حين لا مدفع للحسرات، وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
كثير من الناس يتصورون أن معنى قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:٥٤] أنها الشهوات، لا، بل حيل عند الموت بينهم وبين ما يشتهونه وهو التوبة.
إذا حضر الموت والأجل والغرغرة فهناك حاجز وبرزخ لا يمكن أن يتوب الله على الإنسان بعدما قيل له: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:٢٢]، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] فإذا جاءت الغرغرة سد باب التوبة في وجه العبد، فهذا معنى قوله: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) يعني: من التوبة والرجوع إلى العمل الصالح.
ويقول تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يومئذ ومالكم من نكير} [الشورى:٤٧].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.