[الصلاة أمنية الأموات والمعذبين]
إن من فضائل الصلاة وشرفها أن الصلاة أمنية الأموات والمعذبين، الأموات والمعذبون يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا لكي يصلوا ركعتين خفيفتين من النوافل التي يزهد فيهما كثير من الناس.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبر دفن حديثاً فقال: ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم) يعني: لو أن هذا الميت خير بين أن يعود إلى الدنيا لفترة وجيزة جداً ليركع فيها ركعتين خفيفتين من النوافل التي يزهد الناس في أجرهما، وبين أن يؤتيه الله سبحانه وتعالى ملك الدنيا بما عليها إلى أن تقوم القيامة؛ لاختار أن يعود إلى الدنيا ويركع ركعتين خفيفتين ثم يعود إلى القبر مرة ثانية؛ لما رأى من ثواب الطاعة وثواب الصلاة حتى لو كانت نافلة.
وقال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق! انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهداً، فانطلقت معه فأتى إلى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور فقال: يا أبا إسحاق! ما ترى هذا متمنياً لو تمنى؟ قلت: أن يرد والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويصلح في عمله، قال: فها نحن، ثم نهض فجد واجتهد فلم يلبث إلا يسيراً حتى مات.
وكلمة يستمتع إشارة إلى أن العبادة لها طعم ومتعة ولذة يجدها من يخلص لله سبحانه وتعالى فيها.
كذلك قوله: ويصلح في عمله أي: لنفرض أننا متنا ودفنا ثم سألنا الكرة إلى الدنيا فرجعنا فأخذنا فرصة جديدة، مع أنه في الواقع لا يحصل هذا أبداً، لكن افترض ذلك واعتبر أنك الآن قد مت ودفنت وقامت القيامة وأدخلت النار ثم سألت الله سبحانه وتعالى الكرة: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:١٠٧] فافترض أن الله سبحانه وتعالى قال: قد فعلت وأذن لك بالعودة من جديد إلى الدنيا لتأخذ فرصة جديدة، هكذا ينبغي أن يعالج الإنسان مرض الفتور والتواني عن العبادة بأن يفترض هذا الافتراض، إن الموت هو الفيصل بين هذه الدار وبين دار القرار، وهو الحد الفاصل بين دار الامتحان وبين دار ظهور النتائج، فليس لأحد بعده من مستعتب ولا اعتذار، ولا يمكن الزيادة في الحسنات ولا النقص من السيئات، ولا حيلة ولا درهم ولا دينار، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] يعني: إن هؤلاء لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، وإنما هي كلمة هو قائلها مثل قوله تعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:١٣].
ومن يغادر الدنيا وتوافيه الآخرة فلا سبيل إلى رجوعه مرة ثانية، قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠].
قوله: (بَرْزَخٌ) هي فترة التواجد في القبر إلى يوم البعث والنشور.
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:٩ - ١١].
فعلى أحد التفسيرات فمعنى قوله تعالى: (لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) أي: أن أجل الله لا يؤخر.
وقال عز وجل: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:٤٤] فهم يسألون الرجعة عند الاحتضار، وكذلك يسألونها إذا وقفوا على النار، قال جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:٢٧].
وكذا يتمنون الرجعة إذا عرضوا على ربهم تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:١٢].
وكذا يتكرر سؤالهم الرجعة وهم في غمرات الجحيم، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:٣٧].
وعن سبحانه وتعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:١١].
وقال قتادة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] قال: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت، فاستقال ربه فأقاله، فليعمل بطاعة ربه تعالى.
وقال قتادة: والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها.
من أجل ذلك أوصانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) يعني: اغتنم كل واحدة من هذه الخمس قبل أن تخلفها الثانية ولا تعود الأولى.
قوله: (شبابك قبل هرمك) لأن الإنسان إذا دخل في حد الشيخوخة فلا سبيل إلى استرداد الشباب، يقول الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما صنع المشيب فالشباب إذا ولى لا يعود، والشباب هو فترة العمل، وفترة الإنتاج والبناء، وفترة القوة بين الضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، وفترة مجاهدة النفس، وفترة الاجتهاد في العبادة وتحصيل الأعمال الصالحة ونحو ذلك.
والشباب ضيف سريع الزوال كما قال الشاعر: ما قلت للشباب في كنف اللـ ـه وحفظه غداة استقل زائر لم يزل مقيماً حتى سود الصحف بالذنوب وولى وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ما رأيت الشباب إلا كشيء كان في كمي فسقط.
يعني: ما شعر به لسرعان انقضاء الشباب، فالإنسان لا يغتر بشبابه، ولا ينصت إلى تلبيس الشيطان ورفقاء السوء عندما يقولون له: استمتع بشبابك ثم تب بعد ذلك، واغتنمه في اللهو والضياع؛ وهذا من تلبيس إبليس، ومن اغتنم شبابه في طاعة الله كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء في الحديث: (وشاب نشأ في عبادة الله تبارك وتعالى).
قوله: (وصحتك قبل سقمك)؛ لأن الصحة أيضاً لا تدوم، حتى وإن سلم الإنسان من الآفات في فترات العمر الأولى ففي الغالب هناك الأمراض التي تهجم عليه في فترة الشيخوخة، ولنفرض أن الزرع سلم في مرحلة البذر، وفي مرحلة النمو، وفي مرحلة كذا وكذا وكذا إلى أن استوفى نموه، فنهاية الزرع الحصاد.
فأنت -أيها الإنسان- حتى لو سلمت من الآفات كلها فأنت عند تمام الزرع محصود بالموت.
قوله: (وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) إذ هي أيام وأحوال، فمن فاته العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد في الشباب وفي الصحة والغناء والفراغ والحياة، فإنه لن يدركها عند مجيء أضدادها، ولا ينفعه تمني الأعمال بعد التفريط منه والإهمال في زمن الفرصة والإمهال، ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات، فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات، ويطلب الكرة وهيهات، وتعظم حسراته حين لا مدفع للحسرات، وحيل بينهم وبينما ما يشتهون من الرجعة والتوبة والإخبات.
قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:٤٧ - ٤٨].