للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الصلاة رافعة للدرجات في الجنة]

إن من فضائل الصلاة أنها رافعة الدرجات، ولا تقتصر على إدخال المؤمن إلى الجنة، لكنها تكون سبباً في رفع درجاته حتى بعد دخوله الجنة، وذلك برفع درجاته، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩] فأعطي صلى الله عليه وسلم بصلاة الليل المقام المحمود، ونال أشرف المنازل.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (حدثني بعمل يدخلني الجنة، قال: بخ بخ! لقد سألت عن أمر عظيم وهو يسير لمن يسره الله له، تقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، ولا تشرك بالله شيئاً).

وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن سبعة نفر، أربعة من موالينا وثلاثة من عربنا، مسندي ظهورنا إلى مسجده، فقال: ما أجلسكم؟ قلنا: جلسنا ننتظر الصلاة، قال: فأرم قليلاً -يعني: سكت قليلاً صلى الله عليه وسلم- ثم أقبل علينا فقال: هل تدرون ما يقول ربكم؟ فقلنا: لا، قال: فإن ربكم يقول: من صلى الصلاة لوقتها وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافاً بحقها فله علي عهد أن أدخله الجنة، ومن لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها وضيعها استخفافاً بحقها فلا عهد له علي، إن شئت عذبته وإن شئت غفرت له).

وعن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: من الصديقين والشهداء).

وعن ربيعة بن كعب قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سلني -يعني: يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه كما أحسن إليه- فقال: أسألك مرافقتك في الجنة -يعني: أسألك أن تدعو الله لي أن يجعلني رفيقاً لك في الجنة- قال: أو غير ذلك؟! -يعني: اطلب حاجة أسهل- قلت: هو ذاك -يعني: ليس عندي أمنية أو طموح أقل من هذا- قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) يعني: أن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لابد معها من عمل صالح، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠] يعني: لا تقتصر على دعائي فقط، لكن أعني على إنجاز هذا الطموح وهذا الأمل بكثرة السجود، وهذا الحديث رواه مسلم.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائماً والناس نيام).

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين، يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة) رواه مسلم.

وهاتان الركعتان سنة الوضوء.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة) متفق عليه.

والبردان: الصبح، والعصر، وسميا بذلك؛ لأنهما يصليان في طرفي النهار حيث يطيب الهواء، وتذهب ثورة الحر.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين) أي: لو استطعت أن تحفظ لسانك من الصلاة إلى الصلاة التي تليها عن اللغو يكتب لك كتاب في عليين.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كان رجلان أخوين، فهلك أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة، فذكرت فضيلة الأول منهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يكن الآخر مسلماً؟ قالوا: بلى وكان لا بأس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريكم ما بلغت به صلاته؟).

قوله: (وما يدريكم ما بلغت به صلاته؟) يعني: أن الصلاة رفعت مقامه أراد أن يلفت نظرهم إلى أن الثاني قد عاش بعد الأول فترة من الزمان وأقام الصلاة فيها، ونال ثواباً بسبب امتداد عمره، لعله يربو على ثواب هذا الذي مات أولاً.

وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقى من درنه؟!) يعني: أن الصلاة طهرته.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رجلان من بلي من قضاعة أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد أحدهما وأُخر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيد الله: فرأيت المؤخر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد، فتعجبت لذلك! فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة صلاة سنة؟).

وفي زيادة صحيحة لـ ابن حبان: (بينهما أبعد مما بين السماوات والأرض) أي: بينهما في الفضيلة والمنزلة بالعمل الصالح الذي عمله بعد موت صاحبه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ بلال: يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة، قال: ما عملت عملاً أرجى عندي غير أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) رواه البخاري.

يعني: كان يتنفل عقب كل غسل أو وضوء تنفلاً مطلقاً، قوله: (ما كتب لي) يعني: ما استطعت؛ لأنه كان يكثر من نوافل الصلاة المطلقة؛ لأن النوافل المقيدة لا يزيد الإنسان فيها، مثل: ركعتي الفجر، وسنة المغرب ركعتين بعدية، وسنة العشاء ركعتين بعدية، وسنة الظهر أربع ركعات قبلها وركعتين بعدها، فهذه النوافل مقيدة بعدد، لكن إذا أراد الإنسان في أي وقت خارج أوقات الكراهة أن يزيد ما شاء في الصلاة فله أن يصلي ما شاء.

وهذا هو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)، يعني: من الصلوات المشروعة، لا أن يبتدع صلاة من عنده، وإنما يستكثر من النوافل المطلقة التي لم تقيد بعدد.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) رواه مسلم وغيره.

قوله: (إسباغ الوضوء على المكاره) تقول: ثوب سابغ إذا كان يغطي البدن، فإسباغ الوضوء يعني: أنك تبلغ الماء إلى أعضاء الوضوء ولا تقصر في ذلك، رغم أنك تتألم من الماء في شدة البرد، فهذه هي المكاره؛ لأن المشقة فيه أكثر، والأجر على قدر النصب والمشقة، بخلاف الماء البارد في شدة الحر، فإن الإنسان يستمتع بذلك؛ لأنه يلطف من شدة الحر.

إذاً: معنى إسباغ الوضوء على المكاره: أن يوصل الماء إلى مواضع الوضوء بحدودها الشرعية، رغم الألم الذي يجده بسبب شدة البرد.

قوله: (وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة) يعني: يمكث في المسجد بعد الفراغ من الصلاة، وينتظر الصلاة التي تليها؛ حماية لنفسه من شر الفتن، وحماية للناس من شر نفسه، ويجلس في المسجد يذكر الله تعالى.

قوله: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) شبهه بالرباط في الجهاد وحراسة الثغور من الأعداء، فكذلك هو يجلس في المسجد يرابط؛ ليحمي نفسه من الفتن، ويحمي الآخرين من شره.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح) متفق عليه.

النزل هو ما يعد للضيف من طعام ونحوه من الإكرام، يقول عز وجل: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٢].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:١٠٥] قال: (أرض الجنة يرثها الذين يصلون الصلوات الخمس في الجماعات).

قوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:١٠٦] أي: بشارة لقوم عابدين، وهم الذين يصلون الصلوات في الجماعات، ولذلك قال بعض السلف: (من صلى الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة).

<<  <  ج: ص:  >  >>