[حال من اشتغل بالدنيا عن الصلاة المفروضة]
إن من اشتغل بالدنيا عن الصلاة المفروضة فهو داخل فيمن آثر الدنيا على الآخر، يقول عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:١٦ - ١٧].
وقال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:٢٧].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك)، فبعض الناس ينهمكون في خدمة الدنيا على حساب الدين، وعلى حساب إقامة الصلاة، فإذا ما نصحوا وذكروا بأن الرزق مضمون، وأن عليهم أن يجملوا في طلب الدنيا، انطلق الواحد منهم محتجاً بأن ضمان الرزق لا يعني ترك الأسباب، فتقول له: الرزق مضمون ولن يفوتك شيء من الرزق، قدم حق الله على غيره، قدم الآخرة على الأولى، فينطلق كالصاروخ قائلاً: أليس كل شيء بالأسباب؟! وإن ضيعت الأسباب سيضيع مني الرزق! فيجادل ويقول لك: ضمان الرزق لا يعني ترك الأسباب، وعندما تأتي وتذكره بالأوامر والنواهي والأمور الشرعية يقول لك: ربنا كريم، ربنا غفور رحيم، وبعضهم يقول لك: إن النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا، ونحن نقول: لا إله إلا الله، ويتعلق بهذه النصوص.
فهل نقول: إن ربنا كريم في الآخرة وفي الدنيا، فاترك السعي وراء الرزق، وربنا كريم سيرزقك وأنت جالس؟! هذا غير صحيح، صحيح أن كل شيء يأتي بالأسباب، وكذلك الجنة لا تأتي إلا بالأسباب، يقول عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، فالجنة نفيسة جداً، فهل تريد أن تنالها بالأماني والأوهام والأحلام؟! لماذا لا تأتي بالأسباب التي توصلك إلى الجنة؟! قال بعض الصالحين: اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة.
إذاً: هذا أحد الأدلة على أن البصيرة غائبة منطمسة؛ لأن الله سبحانه ضمن للإنسان الرزق، لكن هل الجنة مضمونة؟ الرزق كتبه الله سبحانه وتعالى كما هو معلوم في الآيات: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ} [الأنعام:١٥١] لكن الجنة قال عنها عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:٣٩ - ٤١]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨].
إذاً: اطلب الرزق لكن بحكمة، ولا تضيع الصلاة من أجل الرزق، أما الجنة فأهم أسباب دخولها المحافظة على الصلاة.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣].
فمن اتقى الله بتقديم حقه في أداء الصلاة على ما عداه عوضه عما فاته من الدنيا، ورزقه من حيث لا يحتسب.
وقال سبحانه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف:٩٦].
وقال عز وجل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:١٦].
وقد روي في بعض الآثار: (وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) فمن شؤم تضييع الصلاة نقصان الرزق ومحق البركة، ومن عجيب أمر بعض الناس أنك إذا دعوتهم لترك شواغلهم لإجابة الداعي إلى الصلاة تعرف في وجوههم المنكر، كيف يتركون العمل لأجل الصلاة مع أن العمل عبادة؟! وهذه العبارة شاعت وذاعت، وشب عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، مع أنها ليست آية قرآنية ولا حديثاً نبوياً، بل هي بهذا السياق عبارة منكرة؛ لأن صاحبها إذا أمر بالصلاة في وقتها يعارض بهذه المقولة المنكرة، ومفهوم هذه المقولة إن الصلاة ليست عبادة، وأصبحت عبادة الدنيا هي العبادة! إن العمل الذي يلهيك عن فريضة الله عبادة، لكن عبادة للشيطان وللدنيا؛ بدليل الحديث: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار) إلى آخر الحديث.
وهذا المسلك من أربابه الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا، ومن المغالطات العلمانية التي يطلقها من لا يرجون لله وقاراً، ولو كان يجوز لأحد أن يترك الصلاة لانشغاله بما عداها، لكان أولى الناس بذلك المجاهد الذي يكافح العدو ويلتحم معه في الجهاد، ومع ذلك لم يعذر المجاهد بترك الصلاة حتى صلاة الجماعة، ففي الجهاد لم يعذر المجاهد في ترك الصلاة، وشرع الله سبحانه وتعالى له صلاة الخوف، كذلك المريض الذي أنهكه المرض كان أولى أنه يجوز له أن ينشغل بالمرض عن الصلاة، لكن مع ذلك لم يعذر لمرضه مهما اشتد به المرض، ما دام عاقلاً ومستطيعاً، فالمريض الذي أنهكه المرض تبقى الصلاة فريضة عينية في حقه، ويصلي على حسب استطاعته، فلا يتصور في الوجود أن يكون هناك مسلم لا يصلي، إلا امرأة حائضاً أو نفساء، فهما اللتان يعذران في ترك الصلاة، بل لا تصح منهما الصلاة.