[استلام قطز حكم مصر واستعداده لمواجهة التتار]
في سنة (٦٥٧هـ) وبعد أن دمرت بغداد، وبدأ التتار في اجتياح الشام؛ رأى الأمير قطز النائب الأول للسلطان الطفل نور الدين علي أن أمر البلاد لن يصلح، وأن مقاومة التتار مستحيلة والبلاد تحت حكم طفل لا يستطيع أن يدبر شئون نفسه فضلاً عن شعبه وأمته، فقام قطز رحمه الله بعزل الطفل السلطان، ووضع نفسه على كرسي الحكم في مصر، وبدأ يعد العدة لأمر عظيم، جمع قطز المستشارين من كبار المماليك وكبار قواد الجيش والعلماء، وأشهرهم العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان قد تجاوز الثمانين عاماً في ذلك الوقت، ثم قال لهم: إنه لم يطلب الملك لذاته وإنما طلبه لحرب التتار، فإذا كتب الله له النصر على التتار ترك الشعب يختار أميره بعد ذلك بإرادته.
إذاً: قطز صرح لأمرائه أنه ما طلب الملك إلا لحرب التتار، فبدأ الأمراء المماليك يترددون، فقد وصلت أنباء التتار المخيفة عن حرب التتار، لكن قطز رحمه الله بدأ يضرب لهم مثلاً رائعاً في فهمه للإسلام، ويعطي لهم قدوةً راقية في الجهاد، لقد أعلن قطز لهم أنه سيذهب بنفسه لحرب التتار، ويكون مع جنوده في قلب المعركة، ولن يرسل جيشاً ويبقى هو في عرينه بمصر، بل سيذوق مع شعبه ما يذوقون، ويتحمل ما يتحملون، ولو أرسل قطز جيشاً وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد، ولكنه لم ير هناك وسيلة أفضل من ذلك؛ لتحميس القلوب الخائفة، وتثبيت الأفئدة المضطربة.
فقه قطز رحمه الله ما علمه الناس نظرياً لا عملياً، لقد فقه أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فقه أن الشجاعة لا تقصر الأعمار، وأن الجبن لا يخلد الإنسان في الحياة، فقه أن الحياة بعزة ساعة خير من البقاء أبد الدهر في ذلة وهوان.
ثم قام قطز رحمه الله وقال للناس: من للإسلام إن لم نكن نحن؟ فضج الأمراء بالبكاء وقاموا خلفه ينادون بالجهاد في سبيل الله، وقد علم أنه من كانت هذه صفته فهو منصور إن شاء الله.
وقام قطز رحمه الله في نشاط يجهز الجيوش ويعد السلاح ويرتب الخيول ويحمس الناس، ولكن واجهته مشكلة ضخمة، وهو أن بيت المال يعاني من ضائقة شديدة، والحالة الاقتصادية متردية، فأراد قطز رحمه الله أن يفرض على الناس الضرائب لتجهيز الجيش، فقام إليه العز بن عبد السلام رحمه الله، وقال له ولأمراء المماليك جميعاً: إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهادهم -أي: فوق الزكاة- ثم علق هذا الأمر على أمرين: الشرط الأول: ألا يبقى في بيت المال شيء.
والشرط الثاني: أن تبيعوا مالكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا، فاستجاب قطز رحمه الله وباع ما يملك، وأمر الأمراء بذلك، وجهز جيشاً صادقاً من المسلمين، وقرر قطز رحمه الله أن يخرج بجيشه إلى حرب التتار في فلسطين، ولا ينتظر حتى يقدموا عليه في مصر، فقامت دعوة في أمراء المماليك بأن يبقى قطز في مصر بجيشه، ولا يخرج إلى فلسطين لقتال التتار، وأن يبقى لحماية مصر، فمصر هي مملكته، وفلسطين مملكة أخرى.
هكذا قيل.
ولكن قطز رحمه الله جمع أمراءه، وأفهمهم حقائق غابت عن أذهان كثير منهم، أفهمهم أن حماية مصر يبدأ من حدودها الشرقية، ولا يمكن أبداً أن يحيا أهل مصر في أمان والعدو الصليبي والتتري يعيش في فلسطين.
هذه واحدة.
الثاني: أنه من الأفضل عسكرياً أن ينقل المعركة إلى أرض خصمه، وأن يكون له خط رجعة، بدلاً من أن تحدث هزيمته في مصر إن حدثت، فتضيع البلاد برمتها.
الأمر الثالث: أنه من الأفضل عسكرياً أن يفاجئ أعداءه قبل أن يستعدوا له.
الأمر الرابع: أن لهم فوق ذلك كله دوراً هاماً ناحية إخوانهم في فلسطين والشام والعراق، ولن تزول أقدامهم يوم القيامة إلا بعد أن يسألوا عن هذا الدور.
الأمر الخامس: أن لهم دوراً في حرب أعداء المسلمين، حتى وإن لم يفكروا أصلاً في دخول قطرهم المحدود ما داموا يعيثون في أرض الله الفساد.
واقتنع المخلصون بالأمر، وبدأ الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله يذكر الناس بالجهاد، واعتلى العلماء المجاهدون منابر البلاد، وألهبوا مشاعر الناس بالحمية لهذا الدين، ورغبوا الناس في الجنة، وزهدوهم في أمر الدنيا وعظموا الجهاد وأهله، وذكروهم بأيام الله، ذكروهم ببدر واليرموك والقادسية، وذكروهم بحطين، التي لم يمض عليها إلا (٧٥) عاماً، وذكروهم بمعركة المنصورة، التي لم يمض عليها إلا عشر سنين.
ومع كل هذا إلا أن فريقاً من المسلمين دبّ الرعب في قلوبهم، وجالت بأذهانهم صور ما سمعوه عن التتار، فبدأ بعض الناس بالفرار إلى المغرب وإلى اليمن وإلى الحجاز، فهل ق