[أساس دعوة الإسلام تغيير القلوب]
وعندما جلس صلى الله عليه وسلم يحادث بني شيبان وكان رأسهم أربعة منهم: المثنى بن حارثة رضي الله عنه وكان لا يزال مشركاً، وقد كانوا وفداً في منتهى الأدب، فاستمع المثنى إلى كلام الرسول عليه الصلاة والسلام واقتنع به ولكنه كان خائفاً خوفاً شديداً لأنهم بجانب العراق التابعة لفارس، فقال المثنى: نحن ننصرك من العرب، لكن فارس لا نستطيع، فإنا نزلنا على عهد مع ملك فارس أن لا نحدث حدثاً ولا نؤي محدثاً، أي: لا نعمل شيئاً جديداً ولا ندافع عن أحد أتى بشيء جديد، وإنا نرى أن ما أنت عليه مما تكرهه الملوك، فلا نستطيع أن ندافع عنك ضد فارس، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق).
ورفض صلى الله عليه وسلم هذا العرض المغري بأن تدافع عنه بنو شيبان ضد كل العرب دون فارس؛ لأنهم يشترطون شرطاً يدل على غياب العقيدة في النفوس، ثم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة في منتهى الدقة والأهمية، فقال: (إن هذا الدين لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه)، أي: من أخذه كاملاً وأما غير ذلك فلا ينفع، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:٨٥].
فهل ستدافع عني ضد قريش وثقيف وبني أسد ولا تدافع عني ضد فارس؟ فهل أنت تقاتل من أجل الله عز وجل أو من أجل نفسك؟ فإن خلصت النوايا فأنت لله في أي مكان، (إن هذا الدين لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه)، ثم قال لهم كلمة في غاية الأهمية، قال لهم: (هل رأيتم إن تلبثون إلا قليلاً حتى يفرشكم الله أرضهم وديارهم ونساءهم أتسبحون الله وتقدسونه؟)، أي: سيأتي يوم يعطينا ربنا سبحانه وتعالى كل فارس فهل ستدخلون حينها في هذا الدين؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذلك.
أي: لو حصل ذلك فسندخل معك حينها، وهذا تعبير يدل على أنه ليس مقتنعاً، وتمر الأيام ويتحقق وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن كان الذي يدخل إيوان كسرى ولجلس على بعد خمسة عشر متراً منه يعتبر ذلك شرفاً له أبد الدهر، بمجرد أنه دخل عليه ولو لم يقعد بجانبه ولم يتكلم معه، بل كان يدخل إيوان كسرى يضع على وجهه غلالة من القماش الأبيض حتى لا تلوث أنفاسه الحضرة الملكية فقد كانت مكانة كسرى عندهم مكانة عظيمة، وكبيرة جداً، ولا يمكن أن يتصوروا أن يغزوا فارس ولا يخطر على بالهم ذلك أبداً.
وتمر الأيام ويسلم المثنى بن حارثة الذي كان يخشى فارس وكان صاحب حزب بني شيبان، فكان من قواد المسلمين في فتح فارس، وكان الذراع الأيمن لـ خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه في كل مواقع العراق فـ المثنى بن حارثة لم تختلف مهارة العسكرية ولا قوته الجسدية، وإنما الذي اختلف أن قلبه ارتبط برب العالمين سبحانه وتعالى فتغير تماماً، وأصبح ملك فارس عنده هيناً حقيراً بسيطاً؛ لأنه يرتبط برب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذه هي النفسية التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه، كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويقول لهم كما روى الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها).
ومن الخطورة أن تشك أن ملك أمة الإسلام سيصل إلى مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن الحرب في حقيقتها بين الله عز وجل وبين من خرج ومرق عن دينه سبحانه وتعالى، وليس لأحد بحرب الله طاقة.
والله سبحانه وتعالى دائماً ينسب إلى نفسه المكر والكيد والنصر، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:١٥ - ١٦]، فينسب إلى نفسه سبحانه وتعالى {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:١٦].
وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل:٥٠]، هكذا ينسب إليه سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال:١٧]، فالذي يشك في نصر الله عز وجل كأنه يشك في قدرته عز وجل، والذي يقول: إن الحرب الآن مختلفة عن الأزمان السابقة، فهي الآن حرب ذرية وحرب صواريخ وأقمار صناعية، وفي الماضي كانت الأمور بسيطة كأنه يقول: إن الله عز وجل كان قادراً على فارس والروم وهو ليس بقادر على غيرهم، وحاشا لله.
فالحرب في حقيقتها هي بين الله عز وجل وبين من مرق عن دينه من عباده الضعفاء، وكل الأرض بكاملها في قبضته سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:٦٧].
هو المعنى الذي زرعه صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحاب