[تجاهل قطز رسائل التتار وتوجهه بجيشه إلى فلسطين]
جاءت رسل التتار إلى قطز في مصر تحمل رسالة من هولاكو تقطر سماً وتفيض تهديداً ووعيداً وإرهاباً، وهي رسالة تنخلع لها قلوب أشباه الرجال، أما قطز ومن تبعه فقد اعتصموا بالله، ومن كان الله معه فلا غالب له، قال هولاكو في رسالته كلاماً كثيراً قد ردده لكثير من الزعماء قبل ذلك، فمما قاله هولاكو مثلاً: نحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، خلقنا الله من سخطه، وسلطنا على من تكبر وتجبر من عباده.
وفي موضع آخر يقول: نحن قد أهلكنا البلاد وأبدنا العباد، وقتلنا النساء والأولاد.
فـ هولاكو يستخدم مثل هذه الأشياء، بل إنه يقول في موضع من رسالته: وعدلنا في ملكنا قد اشتهر، ومن سيوفنا أين المفر؟ ثم قال في النهاية: تحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون، وعن قليل تعلمون على ما تقدمون، وقد أعذر من أنذر.
لقد كانت الرسالة في منتهى الشدة، ولكن سبحان الله المثبت! فإن قطز لم يعبأ مطلقاً بكلمة واحدة من هذه الرسالة، وفي هذا الوقت اضطر هولاكو ترك بلاد الشام ليتجه إلى بلاده بمفرده؛ وذلك لموت أخيه منكو خان الذي كان يرأس دولة التتار في ذلك الوقت، وترك هولاكو قائد جيشه كتبغا على زعامة جيش التتار.
خرج قطز رحمه الله بجيش من مصر وقد تجاوز الجيش مائة ألف مقاتل، وسار على ساحل البحر الأبيض المتوسط مروراً بالعريش، حتى وصل إلى مشارف فلسطين، خرج رحمه الله من القاهرة في (٥) شعبان سنة (٦٥٨هـ)، وكان هذا موافقاً شهر أغسطس سنة (١٢٦٠م)، وكان الحر شديداً، والمرور في سينا صعباً، ولكنه زيادة في الابتلاء والتنقية للصف المسلم.
جعل قطز رحمه الله على مقدمة جيشه الظاهر بيبرس بعد أن جاءه من بلاد الشام، وكان الظاهر بيبرس هارباً من مصر، فأرسل له قطز رسالةً يقربه فيها إليه، واستقدمه من بلاد الشام، وجعله على المقدمة في الجيش؛ وذلك لبراعته في القتال.
لقد كان قطز رحمه الله على عكس ما كان معروفاً في زمانهم، فقد جعل مقدمة الجيش كبيرة جداً، وكان له هدف في ذلك الأمر، أراد قطز رحمه الله أن يفهم التتار أن مقدمة جيش المسلمين هي كل جيش المسلمين، وأنه ليس من ورائها جيش آخر، فالتقت مقدمة المسلمين بقيادة الظاهر بيبرس بحامية التتار في غزة، وقاتلتها بشدة وانتصرت عليها.
نسأل الله عز وجل أن يحرر فلسطين من اليهود.
وفر التتار إلى الشمال يحملون الأخبار إلى كتبغا أن جيش المسلمين بمصر قد جاء إلى فلسطين، واعتقد التتار أن جيش المسلمين ما هو إلا مقدمة الظاهر بيبرس رحمه الله، وحرص قطز رحمه الله على هذا المعنى، فكان يتخفى في سيره، حتى لا يظهر جيشه، بينما يظهر عن عمد جيش الظاهر بيبرس، حتى تعلم العيون المراقبة أن هذا هو الجيش فقط.
مر قطز في طريقه على عكا، وكانت عكا في ذلك الوقت إمارة تحت حكم الصليبيين، فقرر قطز رحمه الله أن يقيم معهم معاهدة، حتى يمر من حول الحصون دون أن يتعرض لحرب صليبية، وهددهم قطز تهديداً شديداً أنهم لو خالفوا ترك التتار وعاد لحربهم، أما إن كانوا على العهد فلن يمسهم بسوء.
فالرؤية كانت واضحة جداً عند قطز، فهو لا يريد الدخول في مواقع جانبية؛ لأنه يعلم أن العدو الرئيسي الآن هم التتار، ويعلم أن عكا مدينة حصينة جداً، ولو فرغ وقته وجهده لفتحها ما استطاع أن يحارب التتار، ولما أشار عليه أحد الأمراء أن يباغت عكا بعد العهد؛ لأن بها ضعف عن كل وقت سابق، قال له قطز: إنه لا يخون العهود، فهذه قيادة إسلامية على منهاج النبوة.