[مفهوم المقاطعة الاقتصادية]
هنا تبزغ الوسيلة الرابعة من وسائل مساعدة أهلنا في فلسطين، بل ومساعدة الأمة الإسلامية لتعاود القيام من جديد، ألا وهي المقاطعة الاقتصادية لمنتجات اليهود ومن عاونهم، المقاطعة لإسرائيل ولأمريكا ولانجلترا ولمن حذا حذوهم وسار على طريقتهم، ما لكم تترددون؟! ألا تقاطعون قوماً قتلوا أبناءكم وإخوانكم وعشيرتكم؟! ألا تقاطعون قوماً خربوا دياركم، وجرفوا أرضكم؟! فإنه لمن المرارة أن تشتري من قاتلٍ قتل إخوتك وما زال يقتل، وليست أفغانستان منا ببعيد.
وإن كنا ننادي بالمقاطعة فإننا كمسلمين متمسكون بديننا وأخلاقنا لا نقاطع إلا بضوابطنا الشرعية، فلا نجر إلى قذارات السياسة الغربية والعلمانية، نحن نحارب بأسلوبنا الذي يقره قرآن وسنة، لا نخالف ربنا وإن خالفه الآخرون، ففي شرعنا لا نقتل المدنيين، ولا نحرض على قتلهم، ولا نروعهم، ولا نسعد بقتلهم، ولا نقاطع بطريقة أبي جهل أو بطريقة بوش أو كلينتون ومن تبعهم بإساءة إلى يوم الدين، نحن لا نستخدم المقاطعة إلا لجلب مصلحة هي أعلى من مصلحة أخرى، أو لدفع ضرر هو أكبر من ضرر آخر، نحن لا نستخدم المقاطعة في مصادرة ما لا يجوز لنا أن نصادره، فلا نجمد أرصدة أحد، ولا نسطو على أموال أحد، ولا نستخدم المقاطعة لتدمير ما لا يجوز لنا تدميره، فنحن المسلمين ضد حرق الممتلكات غير المدنية، سواء كان ذلك في بلادنا أو في بلاد غيرنا، وسواء كانت البلاد الأخرى محاربة أو غير محاربة، وكما أمرنا سبحانه وتعالى أن نحافظ على مساجدنا أمرنا أيضاً أن نحافظ على كنائسهم ومعابدهم، وكما أمرنا سبحانه وتعالى أن نحافظ على أموالنا أمرنا أيضاً أن نحافظ على أموالهم.
والمقاطعة بالضوابط الشرعية تعني: أنه إذا عرضت علي سلعة من دولة مسلمة أو وطنية وأخرى من دولة تعلن العداء السافر لنا اخترت السلعة المسلمة أو الوطنية؛ لأقوي من اقتصاد بلادي وتجنبت السلعة الأخرى؛ إضعافاً لاقتصاد دولة معادية، أما إن كانت الدولة معاهدة أو غير محاربة جاز الشراء منها، وإن كان من الأفضل أن نشتري من المسلمين.
والمقاطعة بالضوابط الشرعية تعني: أنني قاطعت الشراء فقط، وما زالت السلعة سلعته فما صادرتها وما أتلفتها.
أما موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد أن هاجر إليها، فإنه كان يعلم أنه سيحاصر يوماً في المدينة، وستجتمع عليه قريش وحلفاؤها من القبائل العربية، وسيغدر اليهود كعادتهم.
فجهز نفسه صلى الله عليه وسلم لهذا اليوم، فأمن الماء بشراء بئر رومة، وأنشأ السوق الإسلامي، وقاطع بذلك سوق بني قينقاع اليهودي، وشجع التجار والزراع والصناع للعمل حتى يكفوا حاجة المدينة، فتجار اليهود لم يؤذوا فإن التجارة عرض وطلب، والمشتري مخير بإرادته أن يشتري ممن يشاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصادر بئر رومة، أو سوق بني قينقاع، بل اشترى البئر بالمال وأقام السوق البديل، والناس جميعاً مخيرون، ولا شك أن الصحابة كانوا راغبين في التعامل مع السوق الإسلامي بدلاً من السوق اليهودي.
واليهود في المدينة لا يجبرون على الشراء من أسواق المسلمين، فلهم أن يبتاعوا من حيث شاءوا، بل قد يتعاملون فقط فيما بينهم، وهذا مقبول في عرف العالم أجمع، وكذلك في شرعنا معروف ومقبول، والمسلمون إن احتاجوا لبضاعة ليست في سوق المسلمين كانوا يشترونها من اليهود بثمنها، ولا يبخسون أحداً حقه.
إذاً: المقاطعة الاقتصادية لمنتجات اليهود ومن عاونهم أمر مشروع بل محمود ومندوب، بل لعله واجب لكن لا يخرجنا عداؤنا لغيرنا عن ضوابطنا الشرعية وحدودنا الأخلاقية، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة:٨]، أي: لا يجرمنكم عداوة قوم، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:٨].
سؤال لا شك أنه يخطر على أذهانكم: لو عذبنا أنفسنا بمقاطعة طويلة محكمة، هل يمكن أن نحدث أثراً في شركات عملاقة جبارة مثل الشركات الغربية التي تنتشر فروعها في مشارق الأرض ومغاربها؟ فهي شركات متعددة الجنسية كما يقولون، وقد يساوي اقتصادها اقتصاد بعض الدول في العالم الذي يطلقون عليه عالماً ثالثاً، أفي هذا العذاب فائدة؟ أم أنه مجهود ضائع وعمل مبدد؟ أعلم أن في قلوبكم بعض الشكوك وفي أذهانكم بعض الشبهات، لأنكم تسمعون من هنا وهناك حوارات مثيرة وجدالات محيّرة، وعقل المرء يتشتت.