للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كانت صاحبةُ نيرنجات وشعبذات، وبلغ منها أنها ادّعت النبوة، وذلك في العام الذي تُوفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعها بنو عمِّها، وأظهرت لهم أنها أُنزل عليها سورة مِثل القرآن، فمنها: يا أيها المتَّقون لنا نصفُ الأرض، ولقريش نصفها ولكن قريش يبغون. فتبعها بنو عمّها بنو تميم، وأخوالها بنو تغلب وبنو ربيعة، وعظُمتْ عندهم، وكثرت جيوشها واشتهرت بين الناس، وأظهرت دعوتها، وقصدت مُسيلمة الكذّاب، وكان في اليمن مقامه، وقومه بنو حنيفة، وهو الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم [في وفد بني حنيفة وأسلم وأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم] لكل واحد بخمس أواق من الفضة، فقال مسيلمة: إن جعل لي هذا الأمر من بعده اتّبعته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لو سألتني هذا ما أعطيتك؛ وكان بيده عسيبُ نخل، فلمّا رجع عدوّ الله إلى مكانه ارتدّ، وادّعى النبوّة استقلالا، ثم مشاركة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وذُكر في "مختصر ابن الوردي": لمّا قُتل حمزة رضي الله عنه قال بعضهم: ويل لوحشيٍّ من النار! فقال صلى الله عليه وسلم: "أمّا حمزة فأجله قد انقضى، وأما وحشي فسوف يدرك الشرف من بعده". فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "هو يقتل مُسيلمة الكذّاب" فكان كما قال.

ولما قربت سجاح من اليمّامة، خرج إلى قتالها مسيلمة، ونزل قريبا منها، ثم أرسل لها مسيلمة قبّة مبخّرة، بخّرها بالعود والعنبر والمسك، وطيّبها، وسبب ذلك الطيب أن النساء إذا شممن رائحة الطيب هجن للجماع، فسارت سجاح إليه ودخلت القبّة، واجتمعت به تحت القبّة وقالت له: ما أوحي إليك؟ فقال: ألم تر كيف فعل ربُّك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاوق وحشا، ثم قالت: ما أنزل عليك أيضا؟ قال: إن الله خلق للنساء أفراجا، وجعل الرجال لهنّ أزواجا، لهنّ أزواجا، فيولجن فيهنّ أولاجا، ثم يخرج ما يشاء إخراجا. فقالت: أشهد أنك نبي: حق، فقال: هل لكِ أن أتزوّجكِ؟ قالت: نعم. فقال لها، وأرجز، لعنه الله:

ألا قومي إلى ... ... فقد هيي لك المضجع

فإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع

وإن شئت ضجعناك ... وإن شئت على أربع

وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع

فقالت: بل به أجمع يا رسول الله! فقال لها: وبذلك أوحي إليّ. فأقامت عنده ثلاث ليال. ثم خرجت من عنده، وقدمَت إلى عند قومها، وهم لها منتظرون فلما دنت منهم سألوها عنه، فقالت: وجدته نبيا حقا فاتبعته وصدّقت به، ثم بعث مسيلمة يخطبها من قومها، فزوّجوه إياها، وطلبوا مهرها منه. فقال لهم: قد وضعتُ عنكم صلاة العصر. وذلك لزيادة تأكيدها بالفريضة لقوله تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ... " الآية. قيل: هي صلاة العصر. فبنو تميم لا يُصلّون العصر، ويقولون: هذا مهر كريمتنا. ودخل عليها مسيلمة وصب نبوَّته في رحمها ولم تحمل منه. وقتل مسيلمة الكذّاب في أول خلافة الصِّدِّيق رضي الله عنه. وكان لمسيلمة نيرنجات، وبذلك اغترَّ قومه، ومن أراجيزه قوله: يا ضفدع نقِّي كم تنقِّين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين. وقوله: أُخرجُ لكم حنطة وزوانا ورطبا وتمرنا. ولمّا قُتل مسيلمة الكذّاب، انتقلت سجاح إلى أخوالها بني تغلب، وقد ذهبت نبوّتها بقتل زوجها، قال الشاعر:

إذا ذهبَ الحمارُ بأمِّ عمرو ... فلا عادتْ ولا عادَ الحمارُ

وأقامت في بني تغلب، وهم أخسّ العرب، فلله درّ القائل:

والتّغلبيّ إذا تنحنحَ للقرى ... حكَّ استه وتمثّل الأمثالا

فلمّا ولي الخلافة معاوية ونفى بني تغلب أسلمت سجاح وانتقلت إلى البصرة، وأقامت هناك إلى أن ماتت.

وممّن سوّلت له نفسه العصيان، وتابع الشيطان أحمد بن الحسين المتنبّي، الشاعر المشهور، ادّعى النبوّة في بريّة سماوة، وتبعه خلق من بني كلب، وفيه يقول بعضهم:

أيُّ فضلٍ لشاعرٍ يطلبُ الفضلَ ... منَ الناسِ بُكرةً وعيشَّا

عاشَ حيناً يبيعُ في الكوفةِ الماءَ ... وحيناً يبيعُ ماءَ المحيَّا

ولمّا ادّعى النبوّة، وأظهر الدّعوة وأغوى كثيرا من الناس قبض عليه ابن علي الهاشمي واسمه لؤلؤ في قرية كوثلين من أعمال حمص، وحبسه وجعل في رجليه وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف فقال:

<<  <   >  >>