الْقَوْلُ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّصْدِيقُ أَوْ التَّكْذِيبُ، أَوْ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ: يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ؛ إذْ الْخَبَرُ الْوَاحِدُ لَا يَدْخُلُهُ كِلَاهُمَا بَلْ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ أَصْلًا، وَالْخَبَرُ عَنْ الْمُحَالَاتِ لَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ أَصْلًا. وَالْخَبَرُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، وَأَمَّا الْعِبَارَةُ فَهِيَ الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ الَّتِي صِيغَتُهَا مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ قَائِمٌ وَضَارِبٌ، وَهُوَ لَيْسَ خَبَرًا لِذَاتِهِ بَلْ يَصِيرُ خَبَرًا بِقَصْدِ الْقَاصِدِ إلَى التَّعْبِيرِ بِهِ عَمَّا فِي النَّفْسِ، وَلِهَذَا إذَا صَدَرَ مِنْ نَائِمٍ أَوْ مَغْلُوبٍ لَمْ يَكُنْ خَبَرًا.
وَأَمَّا كَلَامُ النَّفْسِ فَهُوَ خَبَرٌ لِذَاتِهِ وَجِنْسِهِ إذَا وُجِدَ لَا يَتَغَيَّرُ بِقَصْدِ الْقَاصِدِ. أَمَّا إثْبَاتُ كَوْنِ التَّوَاتُرِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، خِلَافًا لِلسُّمَنِيَّةِ حَيْثُ حَصَرُوا الْعُلُومَ فِي الْحَوَاسِّ وَأَنْكَرُوا هَذَا. وَحَصْرُهُمْ بَاطِلٌ، فَإِنَّا بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ كَوْنَ الْأَلْفِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ، وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِ الْوَاحِدِ قَدِيمًا مُحْدَثًا وَأُمُورًا أُخَرَ ذَكَرْنَاهَا فِي مَدَارِكِ الْيَقِينِ سِوَى الْحَوَاسِّ. بَلْ نَقُولُ: حَصْرُهُمْ الْعُلُومَ فِي الْحَوَاسِّ مَعْلُومٌ لَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُدْرَكًا بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ.
ثُمَّ لَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ فِي الدُّنْيَا بَلْدَةً تَسَمَّى بَغْدَادَ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا، وَلَا يُشَكُّ فِي وُجُودِ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ فِي وُجُودِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، بَلْ فِي الدُّوَلِ وَالْوَقَائِعِ الْكَبِيرَةِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ هَذَا مَعْلُومًا ضَرُورَةً لَمَا خَالَفْنَاكُمْ.
قُلْنَا مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذَا فَإِنَّمَا يُخَالِفُ بِلِسَانِهِ أَوْ عَنْ خَبْطٍ فِي عَقْلِهِ أَوْ عَنْ عِنَادٍ، وَلَا يَصْدُرُ إنْكَارُ هَذَا مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ يَسْتَحِيلُ إنْكَارُهُمْ فِي الْعَادَةِ لِمَا عَلِمُوهُ وَعِنَادُهُمْ، وَلَوْ تَرَكْنَا مَا عَلِمْنَاهُ ضَرُورَةً لِقَوْلِكُمْ لَلَزِمَكُمْ تَرْكُ الْمَحْسُوسَاتِ بِسَبَبِ خِلَافِ السُّوفُسْطائيَّةِ أَمَّا بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ حَيْثُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ نَظَرِيٌّ، فَإِنَّا نَقُولُ: النَّظَرِيُّ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَ فِيهِ الشَّكُّ وَتَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَحْوَالُ فَيَعْلَمُهُ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَلَا يَعْلَمُهُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَلَا يَعْلَمُهُ مَنْ تَرَكَ النَّظَرَ قَصْدًا، وَكُلُّ عِلْمٍ نَظَرِيٍّ فَالْعَالِمُ بِهِ قَدْ يَجِدُ نَفْسَهُ فِيهِ شَاكًّا ثُمَّ طَالِبًا وَنَحْنُ لَا نَجِدُ أَنْفُسَنَا شَاكِّينَ فِي وُجُودِ مَكَّةَ وَوُجُودِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَالِبِينَ، لِذَلِكَ فَإِنْ عَنَيْتُمْ بِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَنَحْنُ نُنْكِرُهُ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِهِ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْمُخْبِرِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مَا لَمْ يَنْتَظِمْ فِي النَّفْسِ مُقَدِّمَتَانِ إحْدَاهُمَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَبَايُنَ أَغْرَاضِهِمْ وَمَعَ كَثْرَتِهِمْ عَلَى حَالٍ لَا يَجْمَعُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ جَامِعٌ وَلَا يَتَّفِقُونَ إلَّا عَلَى الصِّدْقِ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ الْوَاقِعَةِ فَيُبْتَنَى الْعِلْمُ بِالصِّدْقِ عَلَى مَجْمُوعِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، فَهَذَا مُسَلَّمٌ.
وَلَا بُدَّ أَنْ تَشْعُرَ النَّفْسُ بِهَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ وَالتَّصْدِيقُ وَإِنْ لَمْ تَتَشَكَّلْ فِي النَّفْسِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ بِلَفْظٍ مَنْظُومٍ فَقَدْ شَعَرَتْ بِهِ حَتَّى حَصَلَ التَّصْدِيقُ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِشُعُورِهَا. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الضَّرُورِيَّ إنْ كَانَ عِبَارَةً عَمَّا يَحْصُلُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَقَوْلِنَا: الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا وَالْمَوْجُودُ لَا يَكُونُ مَعْدُومًا، فَهَذَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ، فَإِنَّهُ حَصَلَ بِوَاسِطَةِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ عِبَارَةً عَمَّا يَحْصُلُ بِدُونِ تَشَكُّلِ الْوَاسِطَةِ فِي الذِّهْنِ فَهَذَا ضَرُورِيٌّ، وَرُبَّ وَاسِطَةٍ حَاضِرَةٍ فِي الذِّهْنِ لَا يَشْعُرُ الْإِنْسَانُ بِوَجْهِ تَوَسُّطِهَا وَحُصُولِ الْعِلْمِ بِوَاسِطَتِهَا فَيُسَمَّى أَوَّلِيًّا وَلَيْسَ بِأَوَّلِيٍّ كَقَوْلِنَا: الِاثْنَانِ نِصْفُ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِوَاسِطَةٍ، وَهُوَ أَنَّ النِّصْفَ أَحَدُ جُزْئَيْ الْجُمْلَةِ الْمُسَاوِي لِلْآخَرِ وَالِاثْنَانِ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ الْمُسَاوِي لِلثَّانِي مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْبَعَةِ، فَهُوَ إذَنْ نِصْفٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute