وَصَاعِقَةٍ بِاللَّيْلِ لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ إلَّا الْآحَادُ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا إنَّمَا يَعْلَمُهُ مَنْ قِيلَ لَهُ اُنْظُرْ إلَيْهِ فَانْشَقَّ عَقِيبَ الْقَوْلِ وَالتَّحَدِّي، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ بَصَرُهُ رُبَّمَا تَوَهَّمَ أَنَّهُ خَيَالٌ انْقَشَعَ أَوْ كَوْكَبٌ كَانَ تَحْتَ الْقَمَرِ فَانْجَلَى الْقَمَرُ عَنْهُ أَوْ قِطْعَةُ سَحَابٍ سَتَرَتْ قِطْعَةً مِنْ الْقَمَرِ، فَلِهَذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ نَقْلُهُ.
وَأَمَّا نَقْلُهُمْ الْقُرْآنَ دُونَ سَائِرِ الْأَعْلَامِ فَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّوَاعِيَ لَا تَتَوَفَّرُ بَعْدَ ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ بِالْقُرْآنِ وَاسْتِقْلَالِهَا بِهِ عَلَى نَقْلِ مَا يَقَعُ بَعْدَهُ بِحَيْثُ تَقَعُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ اكْتِفَاءً بِثُبُوتِهَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْآيَاتِ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْقُرْآنِ إنَّمَا ظَهَرَ فِي عُمْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَرُبَّمَا ظَهَرَ بَيْنَ يَدَيْ نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَالْقُرْآنُ كَانَ يُرَدِّدُهُ طُولَ عُمُرِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَيُلْقِيهِ عَلَى كَافَّتِهِمْ قَصْدًا وَيَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِهِ وَالتِّلَاوَةِ لَهُ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ.
وَأَمَّا الْمُعَوِّذَتَانِ فَقَدْ ثَبَتَ نَقْلُهُمَا شَائِعًا مِنْ الْقُرْآنِ كَسَائِرِ السُّوَرِ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُنْكِرْ كَوْنَهُمَا مِنْ الْقُرْآنِ لَكِنْ أَنْكَرَ إثْبَاتَهُمَا فِي الْمُصْحَفِ وَإِثْبَاتَ الْحَمْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ كَانَتْ السُّنَّةُ عِنْدَهُ أَنْ لَا يُثْبَتَ إلَّا مَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِثْبَاتِهِ وَكِتْبَتِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَلَا سَمِعَ أَمْرَهُ بِهِ أَنْكَرَهُ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ وَلَيْسَ جَحْدًا لِكَوْنِهِ قُرْآنًا، وَلَوْ جَحَدَ ذَلِكَ لَكَانَ فِسْقًا عَظِيمًا لَا يُضَافُ إلَى مِثْلِهِ وَلَا إلَى أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَأَمَّا تَرْكُ النَّصَارَى نَقْلَ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْمَهْدِ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا بِحَضْرَةِ نَفَرٍ يَسِيرٍ وَمَرَّةً وَاحِدَةً لِتَبْرِئَةِ مَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - عَمَّا نَسَبُوهَا إلَيْهِ، فَلَمْ يَنْتَشِرْ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِقَوْلِ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَانْدَرَسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَأَمَّا شُعَيْبٌ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرِيعَةٌ يَنْفَرِدُونَ بِهَا، بَلْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَلَمْ تَتَوَفَّرْ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ مُعْجِزَاتِهِمْ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَةٌ، لَكِنْ ثَبَتَ صِدْقُهُمْ بِالنَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ مِنْ نَبِيٍّ ذِي مُعْجِزَةٍ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ عَنْ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ لِلذَّكَرِ وَمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَيَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَدَدًا يَسِيرًا ثُمَّ يَنْقُلُونَهُ آحَادًا وَلَا يَسْتَفِيضُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ فِي الصُّدُورِ وَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى التَّحَدُّثِ بِهِ دَائِمًا.
[الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ]
ُ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ. وَهُوَ جُمْلَةُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَالْعِبَادَاتِ مِمَّا عَدَا الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُوَ كُلُّ خَبَرٍ لَمْ يُعْرَفْ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ. فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ صِدْقًا لَمَا أَخْلَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِهِ.
قُلْنَا وَلِمَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُخْلِيَنَا عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ عَلَى صِدْقِهِ؟ وَلَوْ قَلَبَ هَذَا وَقِيلَ: يَعْلَمُ صِدْقَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَمَا أَخَلَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ عَلَى كَذِبِهِ، لَكَانَ مُقَاوِمًا لِهَذَا الْكَلَامِ. وَكَيْفَ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُقْطَعَ بِكَذِبِ كُلِّ شَاهِدٍ لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَكُفْرِ كُلِّ قَاضٍ وَمُفْتٍ وَفُجُورِهِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ إسْلَامُهُ وَوَرَعُهُ بِقَاطِعٍ؟ وَكَذَا كُلُّ قِيَاسٍ وَدَلِيلٍ فِي الشَّرْعِ لَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ فَلْيُقْطَعْ بِبُطْلَانِهِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ التَّحَدِّي بِالنُّبُوَّةِ إذَا لَمْ تَظْهَرْ مُعْجِزَةٌ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي كَلَّفَنَا تَصْدِيقَهُ، وَتَصْدِيقُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُحَالٌ وَتَكْلِيفُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَبِهِ عَلِمْنَا أَنَّا لَمْ نُكَلَّفْ تَصْدِيقَهُ فَلَمْ يَكُنْ رَسُولًا إلَيْنَا قَطْعًا. أَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ وَشَهَادَةُ الِاثْنَيْنِ فَلَمْ نُتَعَبَّدْ فِيهِ بِالتَّصْدِيقِ، بَلْ بِالْعَمَلِ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ، وَالظَّنُّ حَاصِلٌ، وَالْعَمَلُ مُمْكِنٌ، وَنَحْنُ مُصِيبُونَ وَإِنْ كَانَ هُوَ كَاذِبًا.
وَلَوْ عَلِمْنَا