للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أَخْبِرُوا زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ أُحْبِطَ جِهَادُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ لَمْ يَتُبْ.

قُلْنَا: مَا تَوَاتَرَ إلَيْنَا مِنْ تَعْظِيمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَتَسْلِيمِهِمْ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ أَنْ يَحْكُمَ وَيُفْتِيَ وَلِكُلِّ عَامِّيٍّ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ جَاوَزَ حَدًّا لَا يُشَكُّ فِيهِ فَلَا يُعَارِضُهُ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا يُوثَقُ بِهَا.

ثُمَّ نَقُولُ: مَنْ ظَنَّ بِمُخَالَفَةٍ أَنَّهُ خَالَفَ دَلِيلًا قَاطِعًا فَعَلَيْهِ التَّأْثِيمُ وَالْإِنْكَارُ، وَإِنَّمَا نُقِلَ إلَيْنَا فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ ظَنَّ أَصْحَابُهَا أَنَّ أَدِلَّتَهَا قَاطِعَةٌ فَظَنَّ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْحِسَابَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِي الْمَالِ نِصْفٌ وَثُلُثَانِ، وَظَنَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ حَسْمَ الذَّرَائِعِ مَقْطُوعٌ بِهِ فَمَنَعَتْ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ؛ وَقَدْ أَخْطَئُوا فِي هَذَا الظَّنِّ، فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ أَيْضًا ظَنِّيَّةٌ وَلَا يَجِبُ عِصْمَتُهَا عَنْ مِثْلِ هَذَا الْغَلَطِ، أَمَّا عِصْمَةُ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ عَنْ الْعِصْيَانِ بِتَعْظِيمِ الْمُخَالِفِينَ وَتَرْكِ تَأْثِيمِهِمْ لَوْ أَثِمُوا فَوَاجِبٌ.

[الْحُكْمُ الثَّانِي فِي الِاجْتِهَادِ التَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ]

الْحُكْمُ الثَّانِي فِي الِاجْتِهَادِ وَالتَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ: وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى الْجُمْلَةِ قَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الظَّنِّيَّاتِ مُصِيبٌ وَقَالَ قَوْمٌ:

الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا فِي أَنَّهُ هَلْ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ؟ فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَقِّقُو الْمُصَوِّبَةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ يُطْلَبُ بِالظَّنِّ بَلْ الْحُكْمُ يَتْبَعُ الظَّنَّ وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُصَوِّبَةِ إلَى أَنَّ فِيهِ حُكْمًا مُعَيَّنًا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الطَّلَبُ، إذْ لَا بُدَّ لِلطَّلَبِ مِنْ مَطْلُوبٍ لَكِنْ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ فَلِذَلِكَ كَانَ مُصِيبًا وَإِنْ أَخْطَأَ ذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِإِصَابَتِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ فَأَصَابَ مَا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فِيهِ حُكْمًا مُعَيَّنًا لِلَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ دَفِينٍ يَعْثُرُ الطَّالِبُ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ فَلِمَنْ عَثَرَ عَلَيْهِ أَجْرَانِ وَلِمَنْ حَادَ عَنْهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ لِأَجْلِ سَعْيِهِ وَطَلَبِهِ. وَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا قَاطِعًا أَوْ ظَنِّيًّا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ قَاطِعٌ وَلَكِنَّ الْإِثْمَ مَحْطُوطٌ عَنْ الْمُخْطِئِ لِغُمُوضِ الدَّلِيلِ وَخَفَائِهِ.

وَمِنْ هَذَا تَمَادَى بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ فِي إتْمَامِ هَذَا الْقِيَاسِ فَقَالَ: إذَا كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا أَثِمَ الْمُخْطِئُ كَمَا فِي سَائِرِ الْقَطْعِيَّاتِ. وَهُوَ تَمَامُ الْوَفَاءِ بِقِيَاسِ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ. ثُمَّ الَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا ظَنِّيًّا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ هَلْ أُمِرَ قَطْعِيًّا بِإِصَابَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ لِخَفَائِهِ وَغُمُوضِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ مَعْذُورًا وَمَأْجُورًا. وَقَالَ قَوْمٌ: أُمِرَ بِطَلَبِهِ وَإِذَا أَخْطَأَ لَمْ يَكُنْ مَأْجُورًا لَكِنْ حُطَّ الْإِثْمُ عَنْهُ تَخْفِيفًا.

هَذَا تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وَهُوَ الَّذِي نَقْطَعُ بِهِ وَنُخَطِّئُ الْمُخَالِفَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الظَّنِّيَّاتِ مُصِيبٌ وَأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَسَنَكْشِفُ الْغِطَاءَ عَنْ ذَلِكَ بِفَرْضِ الْكَلَامِ فِي طَرَفَيْنِ.

الطَّرَفِ الْأَوَّلِ: مَسْأَلَةٌ فِيهَا نَصٌّ لِلشَّارِعِ وَقَدْ أَخْطَأَ مُجْتَهِدُ النَّصِّ. فَنَقُولُ: يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ النَّصُّ مِمَّا هُوَ مَقْدُورٌ عَلَى بُلُوغِهِ لَوْ طَلَبَهُ الْمُجْتَهِدُ بِطَرِيقِهِ فَقَصَّرَ وَلَمْ يَطْلُبْ فَهُوَ مُخْطِئٌ

<<  <   >  >>