للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ مِنْ الْأَكْثَرِينَ. هَذَا شَرْحُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَلْنَشْرَعْ الْآنَ فِي الْأَبْوَابِ

[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ]

ِ وَقَدْ قَالَتْ الشِّيعَةُ، وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: يَسْتَحِيلُ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ عَقْلًا، وَقَالَ قَوْمٌ فِي مُقَابَلَتِهِمْ: يَجِبُ التَّعَبُّدُ بِهِ عَقْلًا، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ فِيهِ بِإِحَالَةٍ، وَلَا إيجَابٍ، وَلَكِنَّهُ فِي مَظِنَّةِ الْجَوَازِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ فَأَنْكَرَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وُقُوعَهُ بَلْ ادَّعَوْا حَظْرَ الشَّرْعِ لَهُ.

، وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِأَجْمَعِهِمْ، وَجَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بَعْدَهُمْ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وُقُوعَ التَّعَبُّدِ بِهِ شَرْعًا، فَفِرَقُ الْمُبْطِلَةِ لَهُ ثَلَاثٌ: الْمُحِيلُ لَهُ عَقْلًا، وَالْمُوجِبُ لَهُ عَقْلًا، وَالْحَاظِرُ لَهُ شَرْعًا، فَنَفْرِضُ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ مَسْأَلَةً، وَنُبْطِلُ عَلَيْهِمْ خَيَالَهُمْ، وَنَقُولُ لِلْمُحِيلِ لِلتَّعَبُّدِ بِهِ عَقْلًا: بِمَ عَرَفْت إحَالَتَهُ أَبِضَرُورَةٍ أَوْ نَظَرٍ؟ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَعْوَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَهُمْ مَسَالِكُ

الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ كُلُّ مَا نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَلَا نُحِيلُ التَّعَبُّدَ بِهِ، إنَّمَا نُحِيلُ التَّعَبُّدَ بِمَا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ رَجْمَ الظَّنِّ جَهْلٌ، وَلَا صَلَاحَ لِلْخَلْقِ فِي إقْحَامِهِمْ وَرْطَةَ الْجَهْلِ حَتَّى يَتَخَبَّطُوا فِيهِ، وَيَحْكُمُوا بِمَا لَا يَتَحَقَّقُونَ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنَّهُ نَقِيضُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَانِ أَصْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاحَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا صَلَاحَ فِي التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ، فَفِي أَيِّهِمَا النِّزَاعُ؟ وَالْجَوَابُ: إنَّنَا نُنَازِعُكُمْ فِي الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا إيجَابُ صَلَاحِ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فَلَا نُسَلِّمُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَقَدْ جَوَّزَ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ الصَّلَاحَ، وَقَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ لُطْفًا بِعِبَادِهِ فِي الرَّدِّ إلَى الْقِيَاسِ لِتَحَمُّلِ كُلْفَةِ الِاجْتِهَادِ، وَكَدِّ الْقَلْبِ، وَالْعَقْلِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ لِنَيْلِ الْخَيْرَاتِ الْجَزِيلَةِ {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١] ، وَتَجَشُّمُ الْقَلْبِ بِالْفِكْرِ لَا يَتَقَاعَدُ عَنْ تَجَشُّمِ الْبَدَنِ بِالْعِبَادَاتِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الشَّارِعُ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُمْ بِالتَّنْصِيصِ كَلِمَاتِ الظَّنِّ، وَذَلِكَ ` أَصْلَحُ قُلْنَا: مَنْ أَوْجَبَ الصَّلَاحَ لَا يُوجِبُ الْأَصْلَحَ، ثُمَّ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مِنْ عِبَادِهِ أَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى جَمِيعِ التَّكَالِيفِ لَبَغَوْا، وَعَصَوْا، وَإِذَا فَوَّضَ إلَى رَأْيِهِمْ انْبَعَثَ حِرْصُهُمْ لِاتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِمْ، وَظُنُونِهِمْ. ثُمَّ نَقُولُ: أَلَيْسَ قَدْ أَقْحَمَهُمْ وَرْطَةَ الْجَهْلِ فِي الْحُكْمِ بِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقِبْلَةِ، وَتَقْدِيرِ الْمِثْلِ، وَالْكِفَايَاتِ فِي النَّفَقَاتِ، وَالْجِنَايَاتِ؟ وَكُلُّ ذَلِكَ ظَنٌّ، وَتَخْمِينٌ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا تَعَبَّدَ الْقَاضِي بِصِدْقِ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، بَلْ أَوْجَبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ، وَأَوْجَبَ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ يَظُنُّ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِيهَا لَا اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ. قُلْنَا:، وَكَذَلِكَ تَعَبُّدُ الْمُجْتَهِدِ بِأَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ، وَشَهَادَتُهُ لَهُ، وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ، بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ بِظَنِّهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ الشَّهَادَةُ، كَمَا كُلِّفَ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ بِظَنِّهِ، وَإِنْ كَانَ كَذِبُ الشُّهُودِ مُمْكِنًا، وَلَا فَرْقَ، وَلِذَلِكَ نَقُولُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْخَطَأُ مُحَالٌ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُكَلَّفَ إصَابَةَ مَا لَمْ يُنْصَبْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَمَا أَنْكَرُوهُ إنَّمَا يُشْكِلُ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ.

، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ

<<  <   >  >>