للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فِي مُنَاظَرَتِهِ وَتَسْدِيدِهِ قَدْ يُحَصِّلُ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِ خَرْقِ عَادَةٍ فَبِجَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ يَبْقَى الشَّرْعُ مَحْفُوظًا.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا جَازَ أَنْ يَقِلَّ عَدَدُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فَلَوْ رُجِعَ إلَى وَاحِدٍ فَهَلْ يَكُونُ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ حُجَّةً قَاطِعَةً؟ قُلْنَا: إنْ اعْتَبَرْنَا مُوَافَقَةَ الْعَوَامّ فَإِذَا قَالَ قَوْلًا وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ الْعَوَامُّ وَلَمْ يُخَالِفُوهُ فِيهِ فَهُوَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَيَكُونُ حُجَّةً؛ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالْخَطَأِ وَإِنْ لَمْ نَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ الْعَوَامّ فَلَمْ يُوجَدْ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ اسْمُ الِاجْتِمَاعِ؛ إذْ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ عَدَدًا بِالضَّرُورَةِ حَتَّى يُسَمَّى إجْمَاعًا وَلَا أَقَلَّ مِنْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ.

وَهَذَا كُلُّهُ يُتَصَوَّرُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَعْتَبِرُ إجْمَاعَ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَقُولُ إلَّا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ جَاوَزَ عَدَدُهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ.

[مَسْأَلَةٌ لَا حُجَّةَ فِي إجْمَاعِ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ]

مَسْأَلَةٌ ذَهَبَ دَاوُد وَشِيعَتُهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي إجْمَاعِ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ.

وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الثَّلَاثَةَ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، أَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْعَقْلَ، لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ عَصْرٍ وَعَصْرٍ. فَالتَّابِعُونَ إذَا أَجْمَعُوا فَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ فَهُوَ سَالِكٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيَسْتَحِيلُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ أَنْ يَشِذَّ الْحَقُّ عَنْهُمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ عِنْدَ مَنْ يَأْخُذُهُ مِنْ الْعَادَةِ. وَلَهُمْ شُبْهَتَانِ، أَضْعَفُهُمَا قَوْلُهُمْ: الِاعْتِمَادُ عَلَى الْخَبَرِ وَالْآيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: ١١٥] يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ نُعِتُوا بِالْإِيمَانِ وَهُمْ الْمَوْجُودُونَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوصَفُ بِالْإِيمَانِ وَلَا يَكُونُ لَهُ سَبِيلٌ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ» يَتَنَاوَلُ أُمَّتَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَتُصُوِّرَ إجْمَاعُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ وَهُمْ الْمَوْجُودُونَ.

وَهَذَا بَاطِلٌ؛ إذْ يَلْزَمُ عَلَى مَسَاقِهِ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ بَعْدَ مَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَحَمْزَةَ وَمَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِمَّنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَإِنَّ إجْمَاعَ مَنْ وَرَاءَهُمْ لَيْسَ إجْمَاعَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلِّ الْأُمَّةِ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَكَمُلَتْ آلَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ وَالصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ مَوْتَ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يَحْسِمُ بَابَ الْإِجْمَاعِ، بَلْ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَمْ مِنْ صَحَابِيٍّ اُسْتُشْهِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ.

الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْوَاجِبَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِجْمَاعُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ التَّابِعُونَ جَمِيعَ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَإِنْ مَاتُوا لَمْ يَخْرُجُوا بِمَوْتِهِمْ عَنْ الْأُمَّةِ وَلِذَلِكَ لَوْ خَالَفَ وَاحِدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ لَا يَكُونُ قَوْلَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَلَا يَحْرُمُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، فَإِذَا كَانَ خِلَافُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ يَدْفَعُ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ فَعَدَمُ وِفَاقِهِمْ أَيْضًا يَدْفَعُ لِأَنَّهُمْ بِالْمَوْتِ لَمْ يُخْرَجُوا عَنْ كَوْنِهِمْ مِنْ الْأُمَّةِ. قَالُوا: وَقِيَاسُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَثْبُتَ وَصْفُ الْكُلِّيَّةِ أَيْضًا لِلصَّحَابَةِ بَلْ يُنْتَظَرُ لُحُوقُ التَّابِعِينَ وَمُوَافَقَتُهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ إلَى الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ، لَكِنْ لَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا فِي الْقِيَامَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ وَصْفَ الْكُلِّيَّةِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ دُونَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فَلَا سَبِيلَ إلَى إخْرَاجِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ وَصْفُ كُلِّيَّةِ الْأُمَّةِ لِلتَّابِعِينَ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَمَا بَطَلَ عَلَى الْقَطْعِ الِالْتِفَاتُ إلَى اللَّاحِقِينَ بَطَلَ الِالْتِفَاتُ إلَى الْمَاضِينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تُصُوِّرَ إجْمَاعٌ بَعْدَ مَوْتِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا بَعْدَ أَنْ اُسْتُشْهِدَ حَمْزَةُ وَقَدْ اعْتَرَفُوا بِصِحَّةِ إجْمَاعِ

<<  <   >  >>