وَالْقَاسِطِينَ " وَلَا يُظَنُّ بِمِثْلِهِ أَنْ يَقُولَ أُمِرْت إلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ يَقْتَضِي الْأَمْرَ.
وَيَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالٌ ثَالِثٌ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ، حَتَّى ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ مُطْلَقَ هَذَا يَقْتَضِي أَمْرَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ يَقُولُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي هَذَا؛ إذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ أَمْرًا لِلْأُمَّةِ أَوْ لِطَائِفَةٍ أَوْ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُتِيحُ لَهُ أَنْ يَقُولَ " أَمَرَ " فَيُتَوَقَّفُ فِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ، لَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَمْرَهُ لِلْوَاحِدِ أَمْرٌ لِلْجَمَاعَةِ إلَّا إذَا كَانَ لِوَصْفٍ يَخُصُّهُ مِنْ سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَرَّحَ بِهِ الصَّحَابِيُّ كَقَوْلِهِ: «أُمِرْنَا إذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ» نَعَمْ لَوْ قَالَ: " أُمِرْنَا بِكَذَا " وَعُلِمَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُهُ إلَّا فِي أَمْرِ الْأُمَّةِ حُمِلَ عَلَيْهِ وَإِلَّا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِلْأُمَّةِ أَوْ لَهُ أَوْ لِطَائِفَةٍ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ: " أُمِرْنَا بِكَذَا وَنُهِينَا عَنْ كَذَا " فَيَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مَا سَبَقَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ وَاحْتِمَالٌ رَابِعٌ، وَهُوَ الْآمِرُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا حُجَّةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إلَّا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ إثْبَاتَ شَرْعٍ وَإِقَامَةَ حُجَّةٍ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ.
وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: " مِنْ السُّنَّةِ كَذَا وَالسُّنَّةُ جَارِيَةٌ بِكَذَا ". فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إلَّا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ وَمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ دُونَ سُنَّةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ. أَمَّا التَّابِعِيُّ إذَا قَالَ " أُمِرْنَا " اُحْتُمِلَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْرُ الْأُمَّةِ بِأَجْمَعِهَا وَالْحُجَّةُ حَاصِلَةٌ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَمْرُ الصَّحَابَةِ، لَكِنْ لَا يَلِيقُ بِالْعَالِمِ أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ إلَّا وَهُوَ يُرِيدُ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَلَكِنَّ الِاحْتِمَالَ فِي قَوْلِ التَّابِعِيِّ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ.
الْخَامِسَةُ: أَنْ يَقُولَ: " كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا " فَإِنْ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي مَعْرِضِ الْحُجَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا عَلِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَكَتَ عَلَيْهِ دُونَ مَا لَمْ يُبَلِّغْهُ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كُنَّا نُفَاضِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَقُولُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ فَيَبْلُغُ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُنْكِرُهُ» وَقَالَ: «كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ» الْحَدِيثَ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ بُرٍّ فِي زَكَاةِ الْفِطْرَةِ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كَانُوا لَا يَقْطَعُونَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» .
وَأَمَّا قَوْلُ التَّابِعِيِّ: " كَانُوا يَفْعَلُونَ " لَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ بَلْ عَلَى الْبَعْضِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يُصَرَّحَ بِنَقْلِهِ عَنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ نَقْلًا لِلْإِجْمَاعِ وَفِي ثُبُوتِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَلَامٌ سَيَأْتِي فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ مَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَمَا لَيْسَ خَبَرًا عَنْهُ. وَالْآنَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ طُرُقِ انْتِهَاءِ الْخَبَرِ إلَيْنَا، وَذَلِكَ إمَّا بِنَقْلِ التَّوَاتُرِ أَوْ الْآحَادِ.
[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الْكَلَامُ فِي التَّوَاتُرِ وَفِيهِ أَبْوَابٌ]
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي إثْبَاتِ أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ]
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الْكَلَامُ فِي التَّوَاتُرِ وَفِيهِ أَبْوَابٌ الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي إثْبَاتِ أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَلْنُقَدِّمْ عَلَيْهِ حَدَّ الْخَبَرِ، وَحَدُّهُ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute