التَّكْرَارِ لَا يُفْضِي إلَيْهِ إذْ يُمْكِنُ الِانْتِهَاءُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِشُغْلٍ لَيْسَ ضِدَّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلُّغَةِ بِمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَشَقَّةِ، وَالتَّعَذُّرِ، وَلَوْ قَالَ: " افْعَلْ دَائِمًا " لَمْ يَتَغَيَّرْ مُوجَبُ اللَّفْظِ بِتَعَذُّرِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّعَذُّرُ هُوَ الْمَانِعَ، فَلْيُقْتَصَرْ عَلَى مَا يُطَاقُ، وَيَشُقُّ دُونَ مَا يَتَيَسَّرُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْ الْقَبِيحِ كُلِّهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْحُسْنَ، وَلَا يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِالْحُسْنِ كُلِّهِ، وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْأَمْرَ، وَالنَّهْيَ لَا يَدُلَّانِ عَلَى الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْقَبِيحِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ أَمْرًا فَتَقُولُ: أَمَرَ بِالْقَبِيحِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ بِهِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُسْنِ، وَلَا النَّهْيُ عَلَى الْقُبْحِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَوَاتِ الْأَشْيَاءِ بَلْ الْحُسْنُ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالْقَبِيحُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَيَكُونُ الْحُسْنُ، وَالْقُبْحُ تَابِعًا لِلْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ لَا عِلَّةً، وَلَا مَتْبُوعًا.
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ فِي الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ حُمِلَتْ عَلَى التَّكْرَارِ، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ. قُلْنَا: وَقَدْ حُمِلَ فِي الْحَجِّ عَلَى الِاتِّحَادِ فَلْيَدْلُلْ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ فَكَذَلِكَ هَذَا بِدَلِيلٍ وَقَرَائِنَ بَلْ بِصَرَائِحَ سِوَى مُجَرَّدِ الْأَمْرِ، وَقَدْ أَجَابَ قَوْمٌ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْقَرِينَةَ فِيهِ إضَافَتُهَا إلَى أَسْبَابٍ، وَشُرُوطٍ، وَكُلُّ مَا أُضِيفَ إلَى شَرْطٍ، وَتَكَرَّرَ الشَّرْطُ تَكَرَّرَ الْوُجُوبُ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ.
[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرَ لَيْسَ لِلتَّكْرَارِ فِي الْأَمْرِ الْمُضَافِ إلَى شَرْطٍ]
مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الصَّائِرُونَ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ لِلتَّكْرَارِ فِي الْأَمْرِ الْمُضَافِ إلَى شَرْطٍ اخْتَلَفَ الصَّائِرُونَ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ لِلتَّكْرَارِ فِي الْأَمْرِ الْمُضَافِ إلَى شَرْطٍ
فَقَالَ قَوْمٌ: لَا أَثَرَ لِلْإِضَافَةِ وَقَالَ قَوْمٌ: يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلشَّرْطِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " اضْرِبْهُ " أَمْرٌ لَيْسَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَقَوْلُهُ: " اضْرِبْهُ إنْ كَانَ قَائِمًا " أَوْ " إذَا كَانَ قَائِمًا " لَا يَقْتَضِيهِ أَيْضًا بَلْ لَا يُرِيدُ إلَّا اخْتِصَاصَ الضَّرْبِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ بِحَالَةٍ لِلْقِيَامِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لِوَكِيلِهِ طَلِّقْ زَوْجَتِي إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ " لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ، بَلْ لَوْ قَالَ: " إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ " لَمْ يَتَكَرَّرْ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ إلَّا أَنْ يَقُولَ: " كُلَّمَا دَخَلْتِ الدَّارَ "، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] ، وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ، كَقَوْلِهِ: لِزَوْجَاتِهِ " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُنَّ الشَّهْرَ فَهِيَ طَالِقٌ، وَمَنْ زَالَتْ عَلَيْهَا الشَّمْسُ فَهِيَ طَالِقٌ "، وَلَهُمْ شُبْهَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْعِلَّةِ، وَالشَّرْطُ كَالْعِلَّةِ، فَإِنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ عَلَامَاتٌ.
قُلْنَا: الْعِلَّةُ إنْ كَانَتْ عَقْلِيَّةً فَهِيَ مُوجَبَةٌ لِذَاتِهَا، وَلَا يُعْقَلُ وُجُودُ ذَاتِهَا دُونَ الْمَعْلُولِ، وَإِنْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً، فَلَسْنَا نُسَلِّمُ تَكَرُّرَ الْحُكْمِ بِمُجَرَّدِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ مَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ قَرِينَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ، وَمَعْنَى التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الْعِلَّةِ، وَكَأَنَّ الشَّرْعَ يَقُولُ: الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِهَا فَاتَّبِعُوهَا.
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ إنَّمَا تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْأَسْبَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: ٦] وَ {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: ٦] قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجَبِ اللُّغَةِ، وَمُجَرَّدِ الْإِضَافَةِ بَلْ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي كُلِّ شَرْطٍ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: ٩٧] ، وَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute