الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: كَيْفَ تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى قِيَاسٍ وَأَصْلُ الْقِيَاسِ مُخْتَلِفٌ فِيهِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا يُفْرَضُ ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ وَالْخِلَافُ حَدَثَ بَعْدَهُمْ، وَإِنْ فُرِضَ بَعْدَ حُدُوثِ الْخِلَافِ فَيَسْتَنِدُ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ إلَى الْقِيَاسِ وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ إلَى اجْتِهَادٍ ظَنُّوا أَنَّهُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ قِيَاسٌ؛ إذْ قَدْ يُتَوَهَّمُ غَيْرُ الْعُمُومِ عُمُومًا وَغَيْرُ الْأَمْرِ أَمْرًا وَغَيْرُ الْقِيَاسِ قِيَاسًا، وَكَذَا عَكْسُهُ.
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: إنَّ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ جَائِزٌ، فَكَيْفَ تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى مَا يَجُوزُ فِيهِ الْخَطَأُ؟ وَرُبَّمَا قَالُوا: الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ مُخَالَفَةِ الْمُجْتَهِدِ، فَلَوْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَنْ قِيَاسٍ لَحُرِّمَتْ الْمُخَالَفَةُ الَّتِي هِيَ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَتَنَاقَضَ الْإِجْمَاعَانِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَجُوزُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْآحَادُ، أَمَّا اجْتِهَادُ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ كَاجْتِهَادِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيَاسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ لِثُبُوتِ عِصْمَتِهِ، فَكَذَا عِصْمَةُ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ.
[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْإِجْمَاعِ]
وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الِاتِّبَاعِ وَتَحْرِيمُ الْمُخَالَفَةِ وَالِامْتِنَاعُ عَنْ كُلِّ مَا يَنْسِبُ الْأُمَّةَ إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ، وَالنَّظَرُ فِيمَا هُوَ خَرْقٌ وَمُخَالَفَةٌ وَمَا لَيْسَ بِمُخَالَفَةٍ، يَتَهَذَّبُ بِرَسْمِ مَسَائِلَ:
مَسْأَلَةٌ: إذَا اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ،
كَحُكْمِهِمْ مَثَلًا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ إذَا وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا تُرَدُّ مَعَ الْعُقْرِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى مَنْعِ الرَّدِّ. فَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ كَانَ الْمَصِيرُ إلَى الرَّدِّ مَجَّانًا خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ إلَّا عِنْدَ شُذُوذٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا ذَهَبَ إلَى الرَّدِّ مَجَّانًا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ بِجُمْلَتِهِمْ لَمْ يَخُوضُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ فِيهَا مَذْهَبُ بَعْضِهِمْ، فَلَوْ خَاضُوا فِيهَا بِجُمْلَتِهِمْ وَاسْتَقَرَّ رَأْيُ جَمِيعِهِمْ عَلَى مَذْهَبَيْنِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ مَذْهَبٍ ثَالِثٍ.
وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ يُوجِبُ نِسْبَةَ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ إذْ لَا بُدَّ لِلْمَذْهَبِ الثَّالِثِ مِنْ دَلِيلٍ وَلَا بُدَّ مِنْ نِسْبَةِ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِهِ وَالْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَلَهُمْ شُبَهٌ:
الشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ خَاضُوا خَوْضَ مُجْتَهِدِينَ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِتَحْرِيمِ قَوْلٍ ثَالِثٍ. قُلْنَا: وَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ عَنْ اجْتِهَادٍ فَهُوَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ خِلَافُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ نِسْبَتَهُمْ إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ وَالْغَفْلَةِ عَنْ دَلِيلِهِ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا.
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ الصَّحَابَةُ بِدَلِيلٍ أَوْ عِلَّةٍ لَجَازَ الِاسْتِدْلَال بِعِلَّةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِبُطْلَانِهَا، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لَمْ يُصَرِّحُوا بِبُطْلَانِهِ.
قُلْنَا: فَلْيَجُزْ خِلَافُهُمْ إذَا اتَّفَقُوا عَنْ اجْتِهَادٍ إذْ يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. لَكِنَّ الْجَوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرْضِ دِينِهِمْ الِاطِّلَاعُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ بَلْ يَكْفِيهِمْ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ، فَلَيْسَ فِي إحْدَاثِ عِلَّةٍ أُخْرَى وَاسْتِنْبَاطِهَا نِسْبَةٌ إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ وَفِي مُخَالَفَتِهِمْ فِي الْحُكْمِ إذَا اتَّفَقُوا نِسْبَةٌ إلَى التَّضْيِيعِ، فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ.
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إلَى أَنَّ اللَّمْسَ وَالْمَسَّ يَنْقُضَانِ الْوُضُوءَ، وَبَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُمَا لَا يَنْقُضَانِ الْوُضُوءَ وَلَمْ يُفَرِّقْ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ تَابِعِيٌّ: يَنْقُضُ أَحَدُهُمَا