للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَعَالَى هُوَ الْمَالِكُ وَلَمْ يَأْذَنْ؟ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ قَبِيحًا لَنُهِيَ عَنْهُ وَوَرَدَ السَّمْعُ بِهِ، فَعَدَم وُرُودِ السَّمْعِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ قُبْحِهِ. قُلْنَا لَوْ كَانَ حَسَنًا لَأُذِنَ فِيهِ وَوَرَدَ السَّمْعُ بِهِ، فَعَدَمُ وُرُودِ السَّمْعِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ حُسْنِهِ فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَعْلَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ نَافِعٌ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ فَقَدْ أَذِنَ فِيهِ.

قُلْنَا: فَإِعْلَامُ الْمَالِكِ إيَّانَا أَنَّ طَعَامَهُ نَافِعٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إذْنًا. فَإِنْ قِيلَ الْمَلِكُ مِنَّا يَتَضَرَّرُ وَاَللَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ فَالتَّصَرُّفُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ يَجْرِي مَجْرَى التَّصَرُّفِ فِي مِرْآةِ الْإِنْسَانِ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَفِي حَائِطِهِ بِالِاسْتِظْلَالِ بِهِ وَفِي سِرَاجِهِ بِالِاسْتِضَاءَةِ بِهِ قُلْنَا لَوْ كَانَ قُبْحُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِتَضَرُّرِهِ لَا لِعَدَمِ إذْنِهِ لَقَبُحَ وَإِنْ أَذِنَ إذَا كَانَ مُتَضَرِّرًا، كَيْفَ وَمَنْعُ الْمَالِكِ مِنْ الْمِرْآةِ وَالظِّلِّ وَالِاسْتِضَاءَةِ بِالسِّرَاجِ قَبِيحٌ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ جُمْلَةٍ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَلَمْ يَقْبُحْ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِضَرَرِ الْعَبْدِ فَمَا مِنْ فِعْلٍ إلَّا وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ خَفِيٌّ لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَيَرِدُ التَّوْقِيفُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ.

ثُمَّ نَقُولُ: قَوْلُكُمْ إنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ الْبَارِي بِتَصَرُّفِنَا فَيُبَاحُ، فَلِمَ قُلْتُمْ ذَلِكَ؟ فَإِنَّ نَقْلَ مِرْآةِ الْغَيْرِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهَا يَحْرُمُ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ النَّظَرُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي الْمِرْآةِ كَمَا أَنَّ النَّظَرَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى السَّمَاءِ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي الْمَنْظُورِ، وَلَا فِي الِاسْتِظْلَالِ تَصَرُّفٌ فِي الْحَائِطِ وَلَا فِي الِاسْتِضَاءَة تَصَرُّفٌ فِي السِّرَاجِ، فَلَوْ تَصَرَّفَ فِي نَفْسِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ رُبَّمَا يَقْضِي بِتَحْرِيمِهِ إلَّا إذَا دَلَّ السَّمْعُ عَلَى جَوَازِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الطُّعُومَ فِيهَا وَالذَّوْقَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ انْتِفَاعَنَا بِهَا فَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِهَا عَارِيَّةً عَنْ الطُّعُومِ قُلْنَا: الْأَشْعَرِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ مُطْبِقُونَ عَلَى اسْتِحَالَةِ خُلُوِّهَا عَنْ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ قَابِلَةٌ لَهَا فَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ وَإِنْ سَلِمَ، فَلَعَلَّهُ خَلَقَهَا لَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا أَحَدٌ بَلْ خَلَقَ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ لَا لِعِلَّةٍ، أَوْ لَعَلَّهُ خَلَقَهَا لِيُدْرَكَ ثَوَابُ اجْتِنَابهَا مَعَ الشَّهْوَةِ كَمَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ الْمُشْتَهَاةِ وَأَمَّا مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْحَظْرِ فَأَظْهَرَ بُطْلَانًا إذْ لَا يُعْرَفُ حَظْرُهَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَلَا بِدَلِيلِهِ؛ وَمَعْنَى الْحَظْرِ تَرْجِيحُ جَانِبِ التَّرْكِ عَلَى جَانِبِ الْفِعْلِ لِتَعَلُّقِ ضَرَرٍ بِجَانِبِ الْفِعْلِ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرِدْ سَمْعٌ وَالْعَقْلُ لَا يَقْضِي بِهِ بَلْ رُبَّمَا يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ اللَّذَّاتِ عَاجِلًا؟ فَكَيْف يَصِيرُ تَرْكُهَا أَوْلَى مِنْ فِعْلِهَا؟ وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَهُوَ قَبِيحٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ قُبْحَ ذَلِكَ لَوْلَا تَحْرِيمُ الشَّرْعِ وَنَهْيُهُ وَلَوْ حَكَّمَ فِيهِ الْعَادَةَ فَذَلِكَ يَقْبُحُ فِي حَقِّ مَنْ تَضَرَّرَ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، بَلْ الْقَبِيحُ الْمَنْعُ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ.

ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقِيقَةَ دَرْكِ الْقُبْحِ تَرْجِعُ إلَى مُخَالَفَةِ الْغَرَضِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْوَقْفِ إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ مَوْقُوفٌ قَبْل وُرُودِ السَّمْعِ وَلَا حُكْمَ فِي الْحَال فَصَحِيحٌ، إذْ مَعْنَى الْحُكْمِ الْخِطَابُ وَلَا خِطَابَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّا نَتَوَقَّفُ فَلَا نَدْرِي أَنَّهَا مَحْظُورَةٌ أَوْ مُبَاحَةٌ فَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّا نَدْرِي أَنَّهُ لَا حَظْرَ، إذْ مَعْنَى الْحَظْرِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَفْعَلُوهُ، وَلَا إبَاحَةَ إذْ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ قَوْلُهُ إنْ شِئْتُمْ فَافْعَلُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ فَاتْرُكُوهُ وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

[الْفَنُّ الثَّانِي فِي أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ]

ِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى تَمْهِيدٍ وَمَسَائِلَ خَمْس عَشْرَةَ: أَمَّا التَّمْهِيدُ فَإِنَّ أَقْسَامَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ خَمْسَةٌ: الْوَاجِبُ وَالْمَحْظُورُ وَالْمُبَاحُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمَكْرُوهُ. وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ إمَّا أَنْ يَرِدَ بِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ

<<  <   >  >>