الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُخَالِفُ لَمْ تَصِرْ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعًا بِمَوْتِهِ وَالْبَاقُونَ هُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ، لَكِنَّهُمْ فِي بَعْضِ الْعَصْرِ، فَلِذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَذْهَبُ الْمُخَالِفِ مَهْجُورًا، فَإِنْ كَانَ الْعَصْرُ لَا يُعْتَبَرُ فَلْيَبْطُلْ مَذْهَبُ الْمُخَالِفِ.
قُلْنَا: قَالَ قَوْمٌ: يَبْطُلُ مَذْهَبُهُ وَيَصِيرُ مَهْجُورًا؛ لِأَنَّ الْبَاقِينَ هُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَنَا، بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا الْمَيِّتُ، فَإِنَّ فَتْوَاهُ لَا يَنْقَطِعُ حُكْمُهَا بِمَوْتِهِ. وَلَيْسَ هَذَا لِلْعَصْرِ فَإِنَّهُ جَارٍ فِي الصَّحَابِيِّ الْوَاحِدِ إذَا قَالَ: قَوْلًا وَأَجْمَعَ التَّابِعُونَ فِي جَمِيعِ عَصْرِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ مَذْهَبُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَأَنَا الْآنَ أَرَى بَيْعَهُنَّ " فَقَالَ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ: رَأْيُكَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِكَ فِي الْفُرْقَةِ. قُلْنَا: لَوْ صَحَّ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ قَاطِبَةً لَمَا كَانَ هَذَا يَدُلُّ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ عَلَى اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَلَوْ ذَهَبَ إلَى هَذَا صَرِيحًا لَمْ يَجِبْ تَقْلِيدُهُ، كَيْفَ وَلَمْ يَجْتَمِعْ إلَّا رَأْيُهُ وَرَأْيُ عُمَرَ كَمَا قَالَ؟ وَأَمَّا قَوْلُ عُبَيْدَةَ: رَأْيُكَ فِي الْجَمَاعَةِ، مَا أَرَادَ بِهِ مُوَافَقَةَ الْجَمَاعَةِ إجْمَاعًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ رَأْيَكَ فِي زَمَانِ الْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالِاتِّفَاقِ وَالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك فِي الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ وَتَطَرُّقِ التُّهْمَةِ إلَى عَلِيٍّ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ الشَّيْخَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَلَا حُجَّةَ فِيمَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي نَفْسِهِ.
[مَسْأَلَةٌ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَنْ اجْتِهَادٍ وَقِيَاسٍ]
مَسْأَلَةٌ: يَجُوزُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَنْ اجْتِهَادٍ وَقِيَاسٍ وَيَكُونُ حُجَّةً وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَلْقُ الْكَثِيرُ لَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُهُمْ فِي مَظِنَّةِ الظَّنِّ وَلَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ حُجَّةً، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُتَصَوَّرٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالِاجْتِهَادِ يَفْتَحُ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ كَيْفَ يَتَّفِقُونَ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي مَظِنَّةِ الظَّنِّ؟ قُلْنَا: هَذَا إنَّمَا يُسْتَنْكَرُ فِيمَا يَتَسَاوَى فِيهِ الِاحْتِمَالُ، وَأَمَّا الظَّنُّ الْأَغْلَبُ فَيَمِيلُ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ، فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيذَ فِي مَعْنَى الْخَمْرِ فِي الْإِسْكَارِ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ فِي التَّحْرِيمِ؟ كَيْفَ وَأَكْثَرُ الْإِجْمَاعَاتِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى عُمُومَاتٍ وَظَوَاهِرَ وَأَخْبَارٍ آحَادٍ صَحَّتْ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالِاحْتِمَالُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا؟ كَيْفَ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَفِيهِمَا مِنْ الشُّبَهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ جَدْبًا لِأَكْثَرِ الطِّبَاعِ مِنْ الِاحْتِمَالِ الَّذِي فِي مُقَابِلَةِ الظَّنِّ الْأَظْهَرِ؟ وَقَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى إبْطَالِ النُّبُوَّةِ مَذَاهِبُ بَاطِلَةٌ لَيْسَ لَهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَلَا ظَنِّيٌّ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ الِاتِّفَاقُ عَلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ وَظَنٍّ غَالِبٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَازُ الِاتِّفَاقِ عَنْ اجْتِهَادٍ لَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَالِاتِّفَاقِ عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ وَمِقْدَارِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَةِ وَعَدَالَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَظْنُونٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسًا؟ وَلَهُمْ شُبَهٌ
الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: كَيْفَ تَتَّفِقُ الْأُمَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ طِبَاعِهَا وَتَفَاوُتِ أَفْهَامِهَا فِي الذَّكَاءِ وَالْبَلَادَةِ عَلَى مَظْنُونٍ؟
قُلْنَا: إنَّمَا يَمْتَنِعُ مِثْلُ هَذَا الِاتِّفَاقِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَسَاعَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ قَدْ يَخْتَلِفُونَ، أَمَّا فِي أَزْمِنَةٍ مُتَمَادِيَةٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَسْبِقَ الْأَذْكِيَاءُ إلَى الدَّلَالَةِ الظَّاهِرَةِ وَيُقَرِّرُونَ ذَلِكَ عِنْدَ ذَوِي الْبَلَادَةِ فَيَقْبَلُونَهُ مِنْهُمْ وَيُسَاعِدُونَ عَلَيْهِ، وَأَهْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ قَدْ جَوَّزُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ وَإِبْطَالِهِ مَعَ ظُهُورِ أَدِلَّةِ صِحَّتِهِ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ الْإِجْمَاعِ عَلَى هَذَا؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute