وَكَانَ يُمْكِنُ نُزُولُ الْوَحْيِ بِالْحَقِّ الصَّرِيحِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إلَى رَجْمٍ بِالظَّنِّ وَخَوْفِ الْخَطَأِ. فَأَمَّا وُقُوعُهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِهِ فِي غَيْبَتِهِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ مُعَاذٍ فَأَمَّا فِي حَضْرَتِهِ فَلَمْ يَقُمْ فِيهِ دَلِيلٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «اُحْكُمْ فِي بَعْضِ الْقَضَايَا. فَقَالَ: أَجْتَهِدُ وَأَنْتَ حَاضِرٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إنْ أَصَبْتَ فَلَكَ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ أَجْرٌ» وَقَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَلِرَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ «اجْتَهِدَا فَإِنْ أَصَبْتُمَا فَلَكُمَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتُمَا فَلَكُمَا حَسَنَةٌ» قُلْنَا: حَدِيثُ مُعَاذٍ مَشْهُورٌ قَبِلَتْهُ الْأُمَّةُ، وَهَذِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تَثْبُتُ وَإِنْ ثَبَتَتْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِمَا أَوْ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا فِي زَمَانِهِ.
[مَسْأَلَةٌ النَّبِيِّ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ]
مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي النَّبِيِّ، - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ؟
وَالنَّظَرُ فِي الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ، وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ تَعَبُّدِهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ فِي ذَاتِهِ وَلَا يُفْضِي إلَى مُحَالٍ وَمَفْسَدَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَانِعُ مِنْهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِكْشَافِ الْحُكْمِ بِالْوَحْيِ الصَّرِيحِ فَكَيْفَ يَرْجُمُ بِالظَّنِّ؟ قُلْنَا: فَإِذَا اسْتَكْشَفَ فَقِيلَ لَهُ حَكَمْنَا عَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ وَأَنْتَ مُتَعَبِّدٌ بِهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُنَازِعَ اللَّهَ فِيهِ أَوْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ صَلَاحَهُ فِيمَا تُعُبِّدَ بِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ نَصٌّ قَاطِعٌ يُضَادُّ الظَّنَّ وَالظَّنُّ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالُ الْخَطَأِ فَهُمَا مُتَضَادَّانِ. قُلْنَا: إذَا قِيلَ لَهُ ظَنُّكَ عَلَامَةُ الْحُكْمِ فَهُوَ يَسْتَيْقِنُ الظَّنَّ وَالْحُكْمَ جَمِيعًا فَلَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَكَذَلِكَ اجْتِهَادُ غَيْرِهِ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ كَظَنِّهِ صِدْقَ الشُّهُودِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مُزَوِّرًا فِي الْبَاطِنِ.
فَإِنْ قِيلَ فَإِنْ سَاوَاهُ غَيْرُهُ فِي كَوْنِهِ مُصِيبًا بِكُلِّ حَالٍ فَلْيَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يُخَالِفَ قِيَاسَهُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ. قُلْنَا: لَوْ تُعُبِّدَ بِذَلِكَ لَجَازَ، وَلَكِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ مُخَالَفَةِ اجْتِهَادِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ مُخَالَفَةِ الْأُمَّةِ كَافَّةً، وَكَمَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ مُخَالَفَةِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَالْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْخَلْقِ فِي اتِّبَاعِ رَأْيِ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ وَكَافَّةِ الْأُمَّةِ فَكَذَلِكَ النَّبِيُّ.
وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ يُرَجَّحُ اجْتِهَادُهُ لِكَوْنِهِ مَعْصُومًا عَنْ الْخَطَأِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ الْخَطَأَ وَلَكِنْ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِمُخَالَفَةِ اجْتِهَادِهِ وَذَلِكَ يُنَاقِضُ الِاتِّبَاعَ وَيُنَفِّرُ عَنْ الِانْقِيَادِ؟ قُلْنَا: إذَا عَرَّفَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ بِأَنَّ حُكْمَهُمْ اتِّبَاعُ ظَنِّهِمْ وَإِنْ خَالَفَ ظَنَّ النَّبِيِّ كَانَ اتِّبَاعُهُ فِي امْتِثَالِ مَا رَسَمَهُ لَهُمْ كَمَا فِي الْقَضَاءِ بِالشُّهُودِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَضَى النَّبِيُّ بِشَهَادَةِ شَخْصَيْنِ لَمْ يُعْرَفْ فِسْقُهُمَا فَشَهِدَا عِنْدَ حَاكِمٍ عَرَفَ فِسْقَهُمَا لَمْ يَقْبَلْهُمَا
وَأَمَّا التَّنْفِيرُ فَلَا يَحْصُلُ بَلْ تَكُونُ مُخَالَفَتُهُ فِيهِ كَمُخَالَفَتِهِ فِي الشَّفَاعَةِ، وَفِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَاسَ فَرْعًا عَلَى أَصْلٍ أَفَيَجُوزُ إيرَادُ الْقِيَاسِ عَلَى فَرْعِهِ أَمْ لَا؟ إنْ قُلْتُمْ: لَا. فَمُحَالٌ لِأَنَّهُ صَارَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ. فَكَيْفَ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْفَرْعِ؟ قُلْنَا: يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ فَرْعٍ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى إلْحَاقِهِ بِأَصْلٍ لِأَنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ، فَلَا يُنْظَرُ إلَى مَأْخَذِهِمْ؛ وَمَا أَلْحَقَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ عِلَّةُ الْأَصْلِ.
أَمَّا الْوُقُوعُ فَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ وَأَنْكَرَهُ آخَرُونَ وَتَوَقَّفَ فِيهِ فَرِيقٌ ثَالِثٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ قَاطِعٌ. احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهِ بِأَنَّهُ عُوتِبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَسَارَى بَدْرٍ وَقِيلَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: ٦٧]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute