مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ وَتَقْرِيرِهِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ فِي تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمَشْرُوبِ وَالْمَصْبُوبِ فِي الْحَمَّامِ وَتَقْدِيرُ مُدَّةِ الْمَقَامِ وَالْمَشَقَّةِ سَبَبُ الرُّخْصَةِ
الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ شُرْبُ الْمَاءِ بِتَسْلِيمِ السَّقَّاءِ مُبَاحٌ، وَإِذَا أَتْلَفَ مَاءَهُ فَعَلَيْهِ ثَمَنُ الْمِثْلِ، إذْ قَرِينَةُ حَالِهِ تَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْعِوَضِ فِيمَا بَذَلَهُ فِي الْغَالِبِ، وَمَا يَبْذُلُ لَهُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ ثَمَنَ الْمِثْلِ فَيَقْبَلُهُ السَّقَّاءُ، فَإِنْ مَنَعَ فَعَلَيْهِ مُطَالَبَتُهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا إلَّا الِاكْتِفَاءُ فِي مَعْرِفَةِ الْإِبَاحَةِ بِالْمُعَاطَاةِ وَالْقَرِينَةِ وَتَرْكِ الْمُمَاكَسَةِ فِي الْعِوَضِ، وَهَذَا مَدْلُولٌ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْعِ.
وَكَذَلِكَ دَاخِلُ الْحَمَّامِ مُسْتَبِيحٌ بِالْقَرِينَةِ وَمُتْلِفٌ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بِقَرِينَةِ حَالِ الْحَمَّامِيِّ، ثُمَّ مَا يَبْذُلُهُ إنْ ارْتَضَى بِهِ الْحَمَّامِيُّ وَاكْتَفَى بِهِ عِوَضًا أَخَذَهُ، وَإِلَّا طَالَبَهُ بِالْمَزِيدِ إنْ شَاءَ، فَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا مُبْدَعًا وَلَكِنَّهُ مُنْقَاسٌ، وَالْقِيَاسُ حُجَّةٌ التَّأْوِيلُ الثَّانِي لِلِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ لَا تُسَاعِدُهُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إبْرَازِهِ وَإِظْهَارِهِ وَهَذَا هَوَسٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ وَهْمٌ وَخَيَالٌ أَوْ تَحْقِيقٌ وَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهِ لِيَعْتَبِرَ بِأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ لِتُصَحِّحَهُ الْأَدِلَّةُ أَوْ تُزَيِّفَهُ، أَمَّا الْحُكْمُ بِمَا لَا يَدْرِي مَا هُوَ فَمِنْ أَيٍّ يُعْلَمُ جَوَازُهُ أَبِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ نَظَرِهِ أَوْ بِسَمْعٍ مُتَوَاتِرٍ أَوْ آحَادٍ؟ وَلَا وَجْهَ لِدَعْوَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى زِنَا شَخْصٍ لَكِنْ عَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا الْبَيْتِ وَقَالَ زَنَى فِيهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ حَدَّهُ فَيَقُولُ لَهُ: لَمْ يُسْتَحْسَنْ سَفْكُ دَمِ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ إذْ لَمْ تَجْتَمِعْ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى زِنًا وَاحِدٍ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَقُولَ: تَكْذِيبُ الْمُسْلِمِينَ قَبِيحٌ وَتَصْدِيقُهُمْ وَهُمْ عُدُولٌ حَسَنٌ فَنُصَدِّقُهُمْ وَنُقَدَّرُ دَوَرَانَهُ فِي زَنْيَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى جَمِيعِ الزَّوَايَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدُوا فِي أَرْبَعَةِ بُيُوتٍ فَإِنَّ تَقْدِيرَ التَّزَاحُفِ بَعِيدٌ وَهَذَا هَوَسٌ؛ لِأَنَّا نُصَدِّقُهُمْ وَلَا نَرْجُمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَكَمَا لَوْ شَهِدُوا فِي دُورٍ، وَنَدْرَأُ الرَّجْمَ مِنْ حَيْثُ لَمْ نَعْلَمْ يَقِينًا اجْتِمَاعَ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ، فَدَرْءُ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ أَحْسَنُ، كَيْفَ؟ وَإِنْ كَانَ هَذَا دَلِيلًا فَلَا نُنْكِرُ الْحُكْمَ بِالدَّلِيلِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى بَعْضُ الْأَدِلَّةِ اسْتِحْسَانًا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: لِلِاسْتِحْسَانِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مِمَّنْ عَجَزَ عَنْ نُصْرَةِ الِاسْتِحْسَانِ وَقَالَ: لَيْسَ هُوَ عِبَارَةً عَنْ قَوْلٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بَلْ هُوَ بِدَلِيلٍ، وَهُوَ أَجْنَاسٌ: مِنْهَا الْعُدُولُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ مِنْ الْقُرْآنِ مِثْلِ قَوْلِهِ: مَالِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي، فَالْقِيَاسُ لُزُومُ التَّصَدُّقِ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى مَالًا، لَكِنْ اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّخْصِيصَ بِمَالِ الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: ١٠٣] وَلَمْ يُرِدْ إلَّا مَالَ الزَّكَاةِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَعْدِلَ بِهَا عَنْ نَظَائِرِهَا بِدَلِيلِ السُّنَّةِ كَالْفَرْقِ فِي سَبْقِ الْحَدَثِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّبْقِ وَالتَّعَمُّدِ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْأَحْدَاثِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكَرُ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الِاسْتِنْكَارُ إلَى اللَّفْظِ وَتَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الدَّلِيلِ بِتَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْأَصْلُ الرَّابِعُ مِنْ الْأُصُولِ الْمَوْهُومَةِ الِاسْتِصْلَاحُ]
ُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ اتِّبَاعِ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ كَشْفِ مَعْنَى الْمَصْلَحَةِ وَأَقْسَامِهَا، فَنَقُولُ: الْمَصْلَحَةُ بِالْإِضَافَةِ إلَى شَهَادَةِ الشَّرْعِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ شَهِدَ الشَّرْعُ لِاعْتِبَارِهَا وَقِسْمٌ شَهِدَ لِبُطْلَانِهَا، وَقِسْمٌ لَمْ يَشْهَدْ الشَّرْعُ لَا لِبُطْلَانِهَا وَلَا لِاعْتِبَارِهَا.
أَمَّا مَا شَهِدَ الشَّرْعُ لِاعْتِبَارِهَا فَهِيَ حُجَّةٌ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute