وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرُ» لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَشَارَ بِالْقَتْلِ وَلَوْ كَانَ قَدْ حَكَمَ بِالنَّصِّ لَمَا عُوتِبَ.
قُلْنَا: لَعَلَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بِالنَّصِّ فِي إطْلَاقِ الْكُلِّ أَوْ قَتْلِ الْكُلِّ أَوْ فِدَاءِ الْكُلِّ، فَأَشَارَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِتَعْيِينِ الْإِطْلَاقِ عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ عَنْ غَيْرِهِ فَنَزَلَ الْعِتَابُ مَعَ الَّذِينَ عَيَّنُوا لَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنْ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أُولَئِكَ خَاصَّةً.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» قَالَ الْعَبَّاسُ إلَّا الْإِذْخِرَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إلَّا الْإِذْخِرَ " وَقَالَ فِي الْحَجِّ: " هُوَ لِلْأَبَدِ وَلَوْ قُلْتُ لِعَامِنَا لَوَجَبَ، «وَنَزَلَ مَنْزِلًا لِلْحَرْبِ فَقِيلَ لَهُ: إنْ كَانَ بِوَحْيٍ فَسَمْعًا وَطَاعَةً وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ فَهُوَ مَنْزِلُ مَكِيدَةٍ، فَقَالَ: بَلْ بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ» فَرَحَلَ. قُلْنَا: أَمَّا الْإِذْخِرُ فَلَعَلَّهُ كَانَ نَزَلَ الْوَحْيُ بِأَنْ لَا يُسْتَثْنَى الْإِذْخِرَ إلَّا عِنْدَ قَوْلِ الْعَبَّاسِ أَوْ كَانَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَاضِرًا فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِإِجَابَةِ الْعَبَّاسِ وَأَمَّا الْحَجُّ فَمَعْنَاهُ: لَوْ قُلْتُ لِعَامِنَا لَمَا قُلْتُهُ إلَّا عَنْ وَحْيٍ وَلَوَجَبَ لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا الْمَنْزِلُ فَذَلِكَ اجْتِهَادٌ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أُمُورِ الدِّينِ. احْتَجَّ الْمُنْكِرُونَ لِذَلِكَ بِأُمُورٍ:
أَحَدِهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ لَأَجَابَ عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ وَلَمَا انْتَظَرَ الْوَحْيَ.
الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا لَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ وَاسْتَفَاضَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ اجْتِهَادُهُ وَيَتَغَيَّرَ فَيُتَّهَمَ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الرَّأْي.
قُلْنَا: أَمَّا انْتِظَارُ الْوَحْيِ فَلَعَلَّهُ كَانَ حَيْثُ لَمْ يَنْقَدِحْ لَهُ اجْتِهَادٌ أَوْ فِي حُكْمٍ لَا يَدْخُلهُ الِاجْتِهَادُ أَوْ نُهِيَ عَنْ الِاجْتِهَادِ فِيهِ. وَأَمَّا الِاسْتِفَاضَةُ بِالنَّقْلِ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ النَّاسُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ إذَا لَمْ يَنْزِلْ نَصٌّ وَكَانَ يَنْزِلُ النَّصُّ فَيَكُونُ كَمَنْ تَعَبَّدَ بِالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ إنْ مَلَكَ النِّصَابَ وَالزَّادَ فَلَمْ يَمْلِكْ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا. وَأَمَّا التُّهْمَةُ بِتَغَيُّرِ الرَّأْيِ فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهَا، فَقَدْ اُتُّهِمَ بِسَبَبِ النَّسْخِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: ١٠١] وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحَالَةِ النَّسْخِ، كَيْفَ وَقَدْ عُوِّضَ هَذَا الْكَلَامُ بِجِنْسِهِ فَقِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِالِاجْتِهَادِ لَفَاتَهُ ثَوَابُ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَكَانَ ثَوَابُ الْمُجْتَهِدِينَ أَجْزَلَ مِنْ ثَوَابِهِ؟
وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ ثَوَابَ تَحَمُّلِ الرِّسَالَةِ وَالْأَدَاءِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ ثَوَابٍ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِوَضْعِ الْعِبَادَاتِ وَنَصْبِ الزَّكَوَاتِ وَتَقْدِيرَاتِهَا بِالِاجْتِهَادِ؟ قُلْنَا: لَا مُحِيلَ لِذَلِكَ وَلَا يُفْضِي إلَى مُحَالٍ وَمَفْسَدَةٍ، وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاحَ عِبَادِهِ فِيمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ رَسُولِهِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَبْنِيًّا عَلَى الصَّلَاحِ. وَمَنَعَ الْقَدَرِيَّةُ هَذَا وَقَالُوا: إنْ وَافَقَ ظَنُّهُ الصَّلَاحَ فِي الْبَعْضِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُوَافِقَ الْجَمِيعَ.
وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ فِي اجْتِهَادِ رَسُولِهِ مَا فِيهِ صَلَاحُ عِبَادِهِ، هَذَا هُوَ الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ أَمَّا وُقُوعُهُ فَبَعِيدٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ عَنْ وَحْيٍ صَرِيحٍ نَاصٍّ عَلَى التَّفْصِيلِ.
[النَّظَرُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ]
[الْحُكْمِ الْأَوَّل فِي تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ فِي الِاجْتِهَادِ]
النَّظَرُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ فِي تَأْثِيمِهِ وَتَخْطِئَتِهِ وَإِصَابَتِهِ وَتَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ وَتَحْرِيمِ نَقْضِ حُكْمِهِ الصَّادِرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، فَهَذِهِ أَحْكَامُ النَّظَرِ.
الْأَوَّلُ: فِي تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْإِثْمُ يَنْتَفِي عَنْ كُلِّ مَنْ جَمَعَ صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا تَمَّمَ الِاجْتِهَادَ فِي مَحَلِّهِ فَكُلُّ اجْتِهَادٍ تَامٍّ إذَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَصَادَفَ مَحَلَّهُ فَثَمَرَتُهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَالْإِثْمُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ مَنْفِيٌّ. وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْإِثْمَ وَالْخَطَأَ مُتَلَازِمَانِ، فَكُلُّ مُخْطِئٍ آثِمٌ وَكُلُّ