للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كَالْجُذُوعِ وَاللَّبِنِ وَالطِّينِ، ثُمَّ إنْ أَرَادَ اللَّبِنَ افْتَقَرَ إلَى إعْدَادِ مُفْرَدَاتِهِ وَهُوَ التِّبْنُ وَالتُّرَابُ وَالْمَاءُ وَالْقَالَبُ الَّذِي فِيهِ يُضْرَبُ، فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِالْأَجْزَاءِ الْمُفْرَدَةِ فَيُرَكِّبُهَا ثُمَّ يُرَكِّبُ الْمُرَكَّبَ، وَهَكَذَا إلَى آخِرِ الْعَمَلِ.

وَكَذَلِكَ طَالِبُ الْبُرْهَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي نَظْمِهِ وَصُورَتِهِ وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي فِيهَا النَّظْمُ وَالتَّرْتِيبُ، وَأَقَلُّ مَا يَنْتَظِمُ مِنْهُ بُرْهَانٌ مُقَدِّمَتَانِ أَعْنِي عِلْمَيْنِ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِمَا التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، وَأَقَلُّ مَا تَحْصُلُ مِنْهُ مُقَدِّمَةٌ مَعْرِفَتَانِ تُوضَعُ إحْدَاهُمَا مُخْبَرًا عَنْهَا وَالْأُخْرَى خَبَرًا وَوَصْفًا فَقَدْ انْقَسَمَ الْبُرْهَانُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَانْقَسَمَ كُلُّ مُقَدِّمَةٍ إلَى مَعْرِفَتَيْنِ تُنْسَبُ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى وَكُلُّ مُفْرَدٍ فَهُوَ مَعْنًى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ بِلَفْظٍ، فَيَجِبُ ضَرُورَةً أَنْ نَنْظُرَ فِي الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ وَأَقْسَامِهَا ثُمَّ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا.

ثُمَّ إذَا فَهِمْنَا اللَّفْظَ مُفْرَدًا وَالْمَعْنَى مُفْرَدًا أَلَّفْنَا مَعْنَيَيْنِ وَجَعَلْنَاهُمَا مُقَدِّمَةً، وَنَنْظُرُ فِي حُكْمِ الْمُقَدِّمَةِ وَشُرُوطِهَا ثُمَّ نَجْمَعُ مُقَدِّمَتَيْنِ وَنَصُوغُ مِنْهُمَا بُرْهَانًا وَنَنْظُرُ فِي كَيْفِيَّةِ الصِّيَاغَةِ الصَّحِيحَةِ وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْبُرْهَانَ بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ فَقَدْ طَمِعَ فِي الْمُحَالِ وَكَانَ كَمَنْ طَمِعَ فِي أَنْ يَكُونَ كَاتِبًا يَكْتُبُ الْخُطُوطَ الْمَنْظُومَةَ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ كِتَابَةَ الْكَلِمَاتِ، أَوْ يَكْتُبُ الْكَلِمَاتِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ كَتْبَ الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ.

وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مُرَكَّبٍ، فَإِنَّ أَجْزَاءَ الْمُرَكَّبِ تُقَدَّمُ عَلَى الْمُرَكَّبِ بِالضَّرُورَةِ حَتَّى لَا يُوصَفَ الْقَادِرُ الْأَكْبَرُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْعِلْمِ بِالْمُرَكَّبِ دُونَ الْآحَادِ، إذْ لَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْخُطُوطِ الْمَنْظُومَةِ دُونَ تَعْلِيمِ الْكَلِمَاتِ. فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ اشْتَمَلَتْ دِعَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى فَنٍّ فِي السَّوَابِقِ وَفَنٍّ فِي الْمَقَاصِدِ وَفَنٍّ فِي اللَّوَاحِقِ.

[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي]

الْفَنُّ الْأَوَّلُ فِي السَّوَابِقِ فِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي وَيَتَّضِحُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِتَقْسِيمَاتٍ:

التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ: أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى تَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَهِيَ الْمُطَابَقَةُ وَالتَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ، فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْتِ دَلَّ عَلَى مَعْنَى الْبَيْتِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَيَدُلُّ عَلَى السَّقْفِ وَحْدَهُ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ لِأَنَّ الْبَيْتَ يَتَضَمَّنُ السَّقْفَ لِأَنَّ الْبَيْتَ عِبَارَةٌ مِنْ السَّقْفِ وَالْحِيطَانِ، وَكَمَا يَدُلُّ لَفْظُ الْفَرَسِ عَلَى الْجِسْمِ إذْ لَا فَرَسَ إلَّا وَهُوَ جِسْمٌ. وَأَمَّا طَرِيقُ الِالْتِزَامِ فَهُوَ كَدَلَالَةِ لَفْظِ السَّقْفِ عَلَى الْحَائِطِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْحَائِطِ وَضْعَ لَفْظِ الْحَائِطِ لِلْحَائِطِ حَتَّى يَكُونَ مُطَابِقًا وَلَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ، إذْ لَيْسَ الْحَائِطُ جُزْءًا مِنْ السَّقْفِ كَمَا كَانَ السَّقْفُ جُزْءًا مِنْ نَفْسِ الْبَيْتِ وَكَمَا كَانَ الْحَائِط جُزْءًا مِنْ نَفْسِ الْبَيْتِ، لَكِنَّهُ كَالرَّفِيقِ الْمُلَازِمِ الْخَارِجِ عَنْ ذَاتِ السَّقْفِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ السَّقْفُ عَنْهُ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَعْمِلَ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، لَكِنْ اقْتَصِرْ عَلَى مَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لَا تَنْحَصِرُ فِي حَدٍّ إذْ السَّقْفُ يَلْزَمُ الْحَائِطَ وَالْحَائِطُ الْأُسَّ وَالْأُسُّ الْأَرْضَ وَذَلِكَ لَا يَنْحَصِرُ.

التَّقْسِيمُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَلْفَاظَ بِالْإِضَافَةِ إلَى خُصُوصِ الْمَعْنَى وَشُمُولِهِ تَنْقَسِمُ إلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَنُسَمِّيهِ مُعَيَّنًا، كَقَوْلِكَ زَيْدٌ وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ وَهَذَا الْفَرَسُ وَهَذَا السَّوَادُ، وَإِلَى مَا يَدُلَّ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ تَتَّفِقُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَنُسَمِّيهِ مُطْلَقًا.

وَالْأَوَّلُ حَدُّهُ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُهُ إلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ فَلَوْ قَصَدْتَ اشْتِرَاكَ غَيْرِهِ فِيهِ مُنِعَ نَفْسُ مَفْهُومِ

<<  <   >  >>