الِاتِّبَاعِ، وَالْمُجْتَهِدُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إلَّا عَلَى الْمُجْتَهِدِ الَّذِي هُوَ مُحِقٌّ أَيْضًا فَقُدِّمَ حَقٌّ حَصَلَ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى مَا حَصَلَ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ فِي حَقِّهِ وَالشَّاهِدُ الْمُزَوِّرُ لَوْ عُلِمَ كَوْنُهُ مُزَوِّرًا لَمْ يُتَّبَعْ.
وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا ذِمَّةُ مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ وَأَنَّهُ ذُكِرَ هَذَا فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ وَإِلَّا فَلَا يَبْقَى لَهُ مَعْنًى، إلَّا إنَّهُمْ مُحِقُّونَ إذَا أَصَابُوا دَلِيلَ الْحَقِّ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَتَخْصِيصٌ أَلْبَتَّةَ.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي بَيَانِ أَرْكَانِ الْإِجْمَاعِ]
وَلَهُ رُكْنَانِ: الْمُجْمِعُونَ وَنَفْسُ الْإِجْمَاعِ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْمُجْمِعُونَ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَظَاهِرُ هَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُسْلِمٍ، لَكِنْ لِكُلِّ ظَاهِرٍ طَرَفَانِ وَاضِحَانِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَأَوْسَاطٌ مُتَشَابِهَةٌ. أَمَّا الْوَاضِحُ فِي الْإِثْبَاتِ فَهُوَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مَقْبُولُ الْفَتْوَى فَهُوَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ قَطْعًا وَلَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِي الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْوَاضِحُ فِي النَّفْيِ فَالْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ وَالْأَجِنَّةُ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْأُمَّةِ فَنَعْلَمُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ» إلَّا مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِفَاقُ وَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ فَهْمِهَا. فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَا يَفْهَمُهَا. وَبَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ الْعَوَامُّ الْمُكَلَّفُونَ وَالْفَقِيهُ الَّذِي لَيْسَ بِأُصُولِيٍّ وَالْأُصُولِيُّ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ وَالْمُجْتَهِدُ الْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ وَالنَّاشِئُ مِنْ التَّابِعِينَ مَثَلًا إذَا قَارَبَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَنَرْسُمُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مَسْأَلَةً.
[مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الْعَوَامّ فِي الْإِجْمَاعِ]
مَسْأَلَةٌ يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْعَوَامّ فِي الْإِجْمَاعِ،
فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَشْتَرِكُ فِي دَرْكِهِ الْعَوَامُّ وَالْخَوَاصُّ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَوُجُوبِ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، فَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَالْعَوَامُّ وَافَقُوا الْخَوَاصَّ فِي الْإِجْمَاعِ، وَإِلَى مَا يَخْتَصُّ بِدَرْكِهِ الْخَوَاصُّ كَتَفْصِيلِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالْبَيْعِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، فَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْخَوَاصُّ فَالْعَوَامُّ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَا يُضْمِرُونَ خِلَافًا أَصْلًا فَهْم مُوَافِقُونَ أَيْضًا فِيهِ. وَيَحْسُنْ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ قَاطِبَةً، كَمَا أَنَّ الْجُنْدَ إذَا حَكَّمُوا جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ فِي مُصَالَحَةِ أَهْلِ قَلْعَةٍ فَصَالَحُوهُمْ عَلَى شَيْءٍ يُقَالُ هَذَا بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْجُنْدِ. فَإِذًا كُلُّ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْعَوَامّ وَبِهِ يَتِمُّ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ خَالَفَ عَامِّيٌّ فِي وَاقِعَةٍ أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْخَوَاصُّ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ؟ إنْ كَانَ يَنْعَقِدُ فَكَيْفَ خَرَجَ الْعَامِّيُّ مِنْ الْأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِقَوْلِ الْعَامِّيِّ؟ قُلْنَا: قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَقَالَ قَوْمٌ: مُنْعَقِدٌ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِهِ بِالْجُمْلَةِ وَبِالتَّفْصِيلِ وَقَالَ آخَرُونَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ: إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِدَلِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ أَهْلًا لِطَلَبِ الصَّوَابِ، إذْ لَيْسَ لَهُ آلَةُ هَذَا الشَّأْنِ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي نُقْصَانِ الْآلَةِ؛ وَلَا يُفْهَمُ مِنْ عِصْمَةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْخَطَأِ إلَّا مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِصَابَةُ لِأَهْلِيَّتِهِ وَالثَّانِي، وَهُوَ الْأَقْوَى: أَنَّ الْعَصْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْعَوَامِّ فِي هَذَا الْبَابِ، أَعْنِي خَوَاصَّ الصَّحَابَةِ وَعَوَامَّهُمْ؛ وَلِأَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا قَالَ قَوْلًا عُلِمَ أَنَّهُ يَقُولُهُ عَنْ جَهْلٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ يَدْرِي مَا يَقُولُ وَأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فِيهِ. وَعَنْ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُ هَذَا مِنْ عَامِّيٍّ عَاقِلٍ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يُفَوِّضُ مَا لَا يَدْرِي إلَى مَنْ يَدْرِي، فَهَذِهِ صُورَةٌ فُرِضَتْ وَلَا وُقُوعَ لَهَا أَصْلًا. وَيَدُلُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute