وَلَا نَاهِيًا وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَاَلَّذِي صَحَّ عِنْدَنَا بِالْبَحْثِ النَّظَرِيِّ الْكَلَامِيِّ تَفْرِيعًا عَلَى إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ، أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَيْنُهُ وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُلَازِمُهُ؛ بَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَأْمُرَ بِالشَّيْءِ مَنْ هُوَ ذَاهِلٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، فَكَيْفَ يَقُومُ بِذَاتِهِ قَوْلٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَا هُوَ ذَاهِلٌ عَنْهُ؟ وَكَذَلِكَ يَنْهَى عَنْ الشَّيْءِ وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ أَضْدَادُهُ حَتَّى يَكُونَ آمِرًا بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ لَا بِعَيْنِهِ.
فَإِنْ أَمَرَ وَلَمْ يَكُنْ ذَاهِلًا عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يَقُومُ بِذَاتِهِ زَجْرٌ عَنْ أَضْدَادِهِ مَقْصُودٌ إلَّا مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِعْلُ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يَقُومُ بِذَاتِهِ زَجْرٌ عَنْ أَضْدَادِهِ مَقْصُودٌ إلَّا مِنْ حَيْثُ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا بِتَرْكِ أَضْدَادِهِ، فَيَكُون تَرْكُ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ ذَرِيعَةً بِحُكْمِ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ لَا بِحُكْمِ ارْتِبَاطِ الطَّلَبِ بِهِ، حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ عَلَى الِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ إذَا قِيلَ لَهُ " قُمْ " فَجَمَعَ كَانَ مُمْتَثِلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ إلَّا بِإِيجَادِ الْقِيَامِ وَقَدْ أَوْجَدَهُ.
وَمَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَزِمَهُ فَضَائِحُ الْكَعْبِيِّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، حَيْثُ أَنْكَرَ الْمُبَاحَ وَقَالَ: مَا مِنْ مُبَاحٍ إلَّا وَهُوَ تَرْكٌ لِحَرَامٍ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَيَلْزَمُهُ وَصْفُ الصَّلَاةِ بِأَنَّهَا حَرَامٌ إذَا تَرَكَ بِهَا الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْفَوْرِ. وَإِنْ فَرَّقَ مُفَرِّقٌ فَقَالَ: النَّهْيُ لَيْسَ أَمْرًا بِالضِّدِّ وَالْأَمْرُ نَهْيٌ عَنْ الضِّدِّ، لَمْ يَجِدْ إلَيْهِ سَبِيلًا إلَّا التَّحَكُّمَ الْمَحْضَ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قُلْتُمْ إنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ، إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى فِعْلِ الشَّيْءِ إلَّا بِتَرْكِ ضِدِّهِ فَلْيَكُنْ وَاجِبًا قُلْنَا: وَنَحْنُ نَقُولُ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي إيجَابِهِ هَلْ هُوَ عَيْنُ إيجَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَإِذَا قِيلَ: " اغْسِلْ الْوَجْهَ " فَلَيْسَ عَيْنُ هَذَا إيجَابًا لِغَسْلِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ وَلَا قَوْلُهُ: " صُمْ النَّهَارَ " إيجَابًا بِعَيْنِهِ لِإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ إلَّا صَوْمَ النَّهَارِ، وَلَكِنْ ذَلِكَ يَجِبُ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى وُجُوبِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمَأْمُورِ لَا أَنَّهُ عَيْنُ ذَلِكَ الْإِيجَابِ؛ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ.
[الْفَنُّ الثَّالِثُ مِنْ الْقُطْبِ الْأَوَّلِ فِي أَرْكَانِ الْحُكْمِ]
ِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْحَاكِمُ، وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَالْمَحْكُومُ فِيهِ، وَنَفْسُ الْحُكْمِ. أَمَّا نَفْسُ الْحُكْمِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْخِطَابِ وَهُوَ. الرُّكْنُ الْأَوَّلُ
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْحَاكِمُ.
وَهُوَ الْمُخَاطِبُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ خِطَابٌ وَكَلَامٌ فَاعِلُهُ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُودِ صُورَةِ الْحُكْمِ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ. أَمَّا اسْتِحْقَاقُ نُفُوذِ الْحُكْمِ فَلَيْسَ إلَّا لِمَنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، فَإِنَّمَا النَّافِذُ حُكْمُ الْمَالِكِ عَلَى مَمْلُوكِهِ لَا مَالِكَ إلَّا الْخَالِقُ فَلَا حُكْمَ وَلَا أَمْرَ إلَّا لَهُ أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسُّلْطَانُ وَالسَّيِّدُ وَالْأَبُ وَالزَّوْجُ فَإِذَا أَمَرُوا وَأَوْجَبُوا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ بِإِيجَابِهِمْ بَلْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَتَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ أَوْجَبَ عَلَى غَيْرِهِ شَيْئًا كَانَ لِلْمُوجَبِ عَلَيْهِ أَنْ يَقْلِبَ عَلَيْهِ الْإِيجَابَ، إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. فَإِذًا الْوَاجِبُ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةُ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى طَاعَتَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا بَلْ مَنْ قَدَرَ عَلَى التَّوَعُّدِ بِالْعِقَابِ وَتَحْقِيقِهِ حِسِّيًّا فَهُوَ أَهْلٌ لِلْإِيجَابِ، إذْ الْوُجُوبُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْعِقَابِ قُلْنَا: قَدْ ذَكَرنَا مِنْ مَذْهَبِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَوْجَبَ شَيْئًا لَوَجَبَ وَإِنْ لَمْ يَتَوَعَّدْ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ، لَكِنْ عِنْدَ الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ الْوُجُوبِ لَا يُتَحَصَّلُ عَلَى طَائِلٍ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ضَرَرٌ مَحْذُورٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَخْصِيصِ هَذَا الِاسْمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute