دُونَ الرِّوَايَةِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الرِّوَايَةُ لَا يَزِيدُ عَلَى نَفْسِ الرِّوَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: صَحَّ مِنْ الصَّحَابَةِ قَبُولُ رِوَايَةِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَصِحَّ قَبُولُ تَزْكِيَةِ الْوَاحِدِ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى قِيَاسِ الشَّرْعِ. قُلْنَا: نَحْنُ نَعْلَمُ مِمَّا فَعَلُوهُ كَثِيرًا مِمَّا لَمْ يَفْعَلُوهُ، إذْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَمَا قَبِلُوا حَدِيثَ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانُوا يَقْبَلُونَ تَعْدِيلَهُ لِمَنْ رَوَى الْحَدِيثَ. وَكَيْفَ يَزِيدُ شَرْطُ الشَّيْءِ عَلَى أَصْلِهِ. وَالْإِحْصَانُ يَثْبُتُ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الزِّنَا إلَّا بِأَرْبَعَةٍ وَلَمْ يُقَسْ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ: تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ فِي الرِّوَايَةِ كَمَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمَا. وَهَذِهِ مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ ثَبَتَتْ بِالْمَقَايِيسِ الشَّبَهِيَّةِ فَلَا مَعْنَى لِلْإِطْنَابِ فِيهَا فِي الْأُصُولِ.
[الْفَصْلُ الثَّانِي سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ]
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي ذِكْرِ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ دُونَ التَّعْدِيلِ، إذْ قَدْ يَجْرَحُ بِمَا لَا يَرَاهُ جَارِحًا لِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِيهِ، وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ وَقَالَ قَوْمٌ مُطْلَقُ الْجَرْحِ يُبْطِلُ الثِّقَةَ، وَمُطْلَقُ التَّعْدِيلِ لَا يُحَصِّلُ الثِّقَةَ لِتَسَارُعِ النَّاسِ إلَى الْبِنَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ مِنْ السَّبَبِ فِيهِمَا جَمِيعًا أَخْذًا بِمَجَامِعِ كَلَامِ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجِبُ ذِكْرُ السَّبَبِ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا بِهَذَا الشَّأْنِ فَلَا يَصْلُحُ لِلتَّزْكِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا فَأَيُّ مَعْنًى لِلسُّؤَالِ؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدنَا أَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُزَكِّي، فَمَنْ حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِبَصِيرَتِهِ وَضَبْطِهِ يُكْتَفَى بِإِطْلَاقِهِ، وَمَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ تُعْرَفْ بَصِيرَتُهُ بِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ فَقَدْ نُرَاجِعُهُ إذَا فَقَدْنَا عَالِمًا بَصِيرًا بِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَسْتَفْصِلُهُ. أَمَّا إذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ قَدَّمْنَا الْجَرْحَ، فَإِنَّ الْجَارِحَ اطَّلَعَ عَلَى زِيَادَةٍ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهَا الْمُعَدِّلُ وَلَا نَفَاهَا، فَإِنْ نَفَاهَا بَطَلَتْ عَدَالَةُ الْمُزَكِّي إذْ النَّفْيُ لَا يُعْلَمُ إلَّا إذَا جَرَّحَهُ بِقَتْلِ إنْسَانٍ فَقَالَ الْمُعَدِّلُ: رَأَيْتُهُ حَيًّا بَعْدَهُ تَعَارَضَا. وَعَدَدُ الْمُعَدِّلِ إذَا زَادَ قِيلَ إنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْجَارِحِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ سَبَبَ تَقْدِيمِ الْجَرْحِ اطِّلَاعُ الْجَارِحِ عَلَى مَزِيدٍ وَلَا يَنْتَفِي ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ.
[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي نَفْسِ التَّزْكِيَةِ]
وَذَلِكَ إمَّا بِالْقَوْلِ، أَوْ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، أَوْ بِالْعَمَلِ بِخَبَرِهِ، أَوْ بِالْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ أَعْلَاهَا صَرِيحُ الْقَوْلِ. وَتَمَامُهُ أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَدْلٌ رِضًا لِأَنِّي عَرَفْتُ مِنْهُ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ السَّبَبَ وَكَانَ بَصِيرًا بِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ كَفَى. الثَّانِيَةُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ خَبَرًا. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ تَعْدِيلًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَوْ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ الرِّوَايَةَ إلَّا مِنْ عَدْلٍ كَانَتْ الرِّوَايَةُ تَعْدِيلًا وَإِلَّا فَلَا، إذْ مِنْ عَادَةِ أَكْثَرِهِمْ الرِّوَايَةُ مِنْ كُلِّ مَنْ سَمِعُوهُ، وَلَوْ كُلِّفُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ سَكَتُوا، فَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ مَا يُصَرِّحُ بِالتَّعْدِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ عَرَّفَهُ بِالْفِسْقِ ثُمَّ رَوَى عَنْهُ كَانَ غَاشًّا فِي الدِّينِ. قُلْنَا: لَمْ نُوجِبْ عَلَى غَيْرِهِ الْعَمَلَ، لَكِنْ قَالَ: سَمِعْتُ فُلَانًا قَالَ كَذَا وَصَدَقَ فِيهِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ لَمْ يُعَرِّفْهُ بِالْفِسْقِ وَلَا الْعَدَالَةِ فَرَوَى وَوَكَّلَ الْبَحْثَ إلَى مَنْ أَرَادَ الْقَبُولَ.
الثَّالِثَةُ: الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ إنْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ أَوْ عَلَى الْعَمَلِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ الْخَبَرَ فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ، وَإِنْ عَرَفْنَا يَقِينًا أَنَّهُ عَمِلَ بِالْخَبَرِ فَهُوَ تَعْدِيلٌ، إذْ لَوْ عَمِلَ بِخَبَرِ غَيْرِ الْعَدْلِ لَفَسَقَ وَبَطَلَتْ عَدَالَتُهُ. فَإِنْ قِيلَ لَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ الْفِسْقِ عَدَالَةٌ. قُلْنَا: هَذَا يَتَطَرَّقُ إلَى التَّعْدِيلِ بِالْقَوْلِ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْعَمَلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute