للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ظَاهِرَةً فَلْنَكْتَفِ بِهِ. قُلْنَا: لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُشَاهَدَةَ وَالتَّجْرِبَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عَدَدَ فُسَّاقِ الْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ عُدُولِهِمْ، فَكَيْفَ نُشَكِّكُ نُفُوسَنَا فِيمَا عَرَفْنَاهُ يَقِينًا؟ ثُمَّ هَلَّا اُكْتُفِيَ بِذَلِكَ فِي شَهَادَةِ الْعُقُوبَاتِ وَشَهَادَةِ الْأَصْلِ وَحَالِ الْمُفْتِي فِي الْعَدَالَةِ وَسَائِرِ مَا سَلَّمُوهُ

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ: يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ الْمَجْهُولِ فِي كَوْنِ اللَّحْمِ لَحْمَ ذَكِيٍّ وَكَوْنِ الْمَاءِ فِي الْحَمَّامِ طَاهِرًا وَكَوْنِ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ رَقِيقَةً غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ وَلَا مُعْتَدَّةٍ حَتَّى يَحِلَّ الْوَطْءُ بِقَوْلِهِ، وَقَوْلُ الْمَجْهُولِ فِي كَوْنِهِ مُتَطَهِّرًا لِلصَّلَاةِ عَنْ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ إذَا أَمَّ النَّاسَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يُخْبِرُ الْأَعْمَى عَنْ الْقِبْلَةِ.

قُلْنَا: أَمَّا قَوْلُ الْعَاقِدِ فَمَقْبُولٌ لَا لِكَوْنِهِ مَجْهُولًا لَكِنَّهُ مَعَ ظُهُورِ الْفِسْقِ، وَذَلِكَ رُخْصَةٌ لِكَثْرَةِ الْفُسَّاقِ وَلِمَسِيسِ حَاجَتِهِمْ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَكَذَلِكَ جَوَازُ الِاقْتِدَاءِ بِالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فَلَا يُشْتَرَطُ السَّتْرُ، أَمَّا الْخَبَرُ عَنْ الْقِبْلَةِ وَعَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ فَمَا لَمْ يَحْصُلْ سُكُونُ النَّفْسِ بِقَوْلِ الْمُخَبِّرِ فَلَا يَجِبُ قَبُولُهُ، وَالْمَجْهُولُ لَا تَسْكُنُ النَّفْسُ إلَيْهِ بَلْ سُكُونُ النَّفْسِ إلَى قَوْلِ فَاسِقٍ جُرِّبَ بِاجْتِنَابِ الْكَذِبِ أَغْلَبُ مِنْهُ إلَى قَوْلِ الْمَجْهُولِ وَمَا يَخُصُّ الْعَبْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَدَّ إلَى سُكُونِ نَفْسِهِ.

فَأَمَّا الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ فَأَمْرُهُمَا أَرْفَعُ وَخَطَرُهُمَا عَامٌّ، فَلَا يُقَاسَانِ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَهَذِهِ صُوَرٌ ظَنِّيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، أَمَّا رَدُّ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَالْمَجْهُولِ فَقَرِيبٌ مِنْ الْقَطْعِ.

[مَسْأَلَةٌ الْفَاسِقُ الْمُتَأَوِّلُ]

ُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ فِسْقَ نَفْسِهِ اخْتَلَفُوا فِي شَهَادَتِهِ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْحَنَفِيِّ وَأَحُدُّهُ إذَا شَرِبَ النَّبِيذَ؛ لِأَنَّ هَذَا فِسْقٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ إنَّمَا الْمَقْطُوعُ بِهِ فِسْقُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ اسْتَبَاحُوا الدِّيَارَ وَقَتَلُوا الذَّرَارِيَّ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَنَّهُمْ فَسَقَةٌ.

وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنْ الرَّافِضَةِ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ فِي الْمَذْهَبِ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمُبْتَدِعِ وَشَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ بِفِعْلِهِ وَبِجَهْلِهِ بِتَحْرِيمِ فِعْلِهِ فَفِسْقُهُ مُضَاعَفٌ، وَزَعَمَ أَنَّ جَهْلَهُ بِفِسْقِ نَفْسِهِ كَجَهْلِهِ بِكُفْرِ نَفْسِهِ وَرِقِّ نَفْسِهِ. وَمَثَارُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْفِسْقَ يَرُدُّ الشَّهَادَةَ لِأَنَّهُ نُقْصَانُ مَنْصِبٍ يَسْلُبُ الْأَهْلِيَّةَ كَالْكُفْرِ وَالرِّقِّ أَوْ هُوَ مَرْدُودُ الْقَوْلِ لِلتُّهْمَةِ، فَإِنْ كَانَ لِلتُّهْمَةِ فَالْمُبْتَدِعُ مُتَوَرِّعٌ عَنْ الْكَذِبِ فَلَا يُتَّهَمُ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ مُشِيرٌ إلَى هَذَا وَهُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ لَا يَسْلُبَانِ الْأَهْلِيَّةَ بَلْ يُوجِبَانِ التُّهْمَةَ وَلِذَلِكَ قَبِلَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَذْهَبُ الْقَاضِي أَنَّ كِلَيْهِمَا نُقْصَانُ مَنْصِبٍ يَسْلُبُ الْأَهْلِيَّةَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكُفْرَ نُقْصَانٌ وَالْفِسْقَ مُوجِبٌ لِلرَّدِّ لِلتُّهْمَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ عِنْدَنَا.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَضَى بِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَذَلِكَ لِسَلْبِ الْأَهْلِيَّةِ، الثَّانِي: أَنَّهُ إنْ كَانَ لِلتُّهْمَةِ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي صِدْقُهُ فَلْيَقْبَلْ قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَأْخَذُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَأَمَّا الثَّانِي فَسَبَبُهُ أَنَّ الظُّنُونَ تَخْتَلِفُ، وَهُوَ أَمْرٌ خَفِيٌّ نَاطَهُ الشَّرْعُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ وَوَصْفٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْعَدَالَةُ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُ السَّبَبِ الظَّاهِرِ دُونَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ وَكَمَا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِأَحَدِ وَلَدَيْهِ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُتَّهَمُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ

<<  <   >  >>