بِالشَّكِّ وَوُجُوبُ اسْتِئْنَافِ الصَّلَاةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَرْتَفِعُ بِهِ الْيَقِينُ. قُلْنَا: هَذَا يُعَارِضُهُ أَنَّ وُجُوبَ الْمُضِيِّ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِهِ الْيَقِينُ.
ثُمَّ نَقُولُ: مَنْ يُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ يُوجِبُهُ بِدَلِيلٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ كَمَا يَرْفَعُ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ بِدَلِيلٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، كَيْفَ وَالْيَقِينُ قَدْ يُرْفَعُ بِالشَّكِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ؟ فَالْمَسَائِلُ فِيهِ مُتَعَارِضَةٌ، وَذَلِكَ إذَا اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ وَرَضِيعَةٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَمَاءٌ طَاهِرٌ بِمَاءٍ نَجِسٍ، وَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، احْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَوَّبَ الْكُفَّارَ فِي مُطَالَبَتِهِمْ لِلرُّسُلِ بِالْبُرْهَانِ حِينَ قَالَ تَعَالَى: {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: ١٠] فَقَدْ اشْتَغَلَ النَّاسُ بِالْبَرَاهِينِ الْمُغَيِّرَةِ لِلِاسْتِصْحَابِ.
قُلْنَا:، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَصْحِبُوا الْإِجْمَاعَ بَلْ النَّفْيَ الْأَصْلِيَّ الَّذِي دَلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ، إذْ الْأَصْلُ فِي فِطْرَةِ الْآدَمِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِآيَاتٍ وَعَلَامَاتٍ فَهْم مُصِيبُونَ فِي طَلَبِ الْبُرْهَانِ وَمُخْطِئُونَ فِي الْمُقَامِ عَلَى دِينِ آبَائِهِمْ بِمُجَرَّدِ الْجَهْلِ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ.
[مَسْأَلَةٌ النَّافِيَ هَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ]
مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّافِيَ هَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ، وَفَرَّقَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ بَيْنَ الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ فَأَوْجَبُوا الدَّلِيلَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ دُونَ الشَّرْعِيَّاتِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالنَّفْيُ فِيهِ كَالْإِثْبَاتِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُقَالَ لِلنَّافِي: مَا ادَّعَيْتَ نَفْيَهُ عَرَفْتَ انْتِفَاءَهُ أَوْ أَنْتَ شَاكٌّ فِيهِ؟ فَإِنْ أَقَرَّ بِالشَّكِّ فَلَا يُطَالَبُ الشَّاكُّ بِالدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ يَعْتَرِفُ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ.
وَإِنْ قَالَ: أَنَا مُتَيَقِّنٌ لِلنَّفْيِ قِيلَ: يَقِينُك هَذَا حَصَلَ عَنْ ضَرُورَةٍ أَوْ عَنْ دَلِيلٍ؟ وَلَا تُعَدُّ مَعْرِفَةُ النَّفْيِ ضَرُورَةً فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّا لَسْنَا فِي لُجَّةِ بَحْرٍ أَوْ عَلَى جَنَاحِ نَسْرٍ، وَلَيْسَ بَيْنَ أَيْدِينَا نِيلٌ وَلَا تُعَدُّ مَعْرِفَةُ النَّفْيِ ضَرُورَةً. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ ضَرُورَةً فَإِنَّمَا عَرَفَهُ عَنْ تَقْلِيدٍ أَوْ عَنْ نَظَرٍ، فَالتَّقْلِيدُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَإِنَّ الْخَطَأَ جَائِزٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ، وَالْمُقَلِّدُ مُعْتَرِفٌ بِعَمَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْبَصِيرَةَ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ نَظَرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ فَهَذَا أَصْلُ الدَّلِيلِ.
وَيَتَأَيَّدُ بِلُزُومِ إشْكَالَيْنِ بَشِعَيْنِ عَلَى إسْقَاطِ الدَّلِيلِ عَنْ النَّافِي، وَهُوَ أَنْ لَا يَجِبَ الدَّلِيلُ عَلَى نَافِي حُدُوثِ الْعَالَمِ وَنَافِي الصَّانِعِ النُّبُوَّاتِ وَنَافِي تَحْرِيمِ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الدَّلِيلَ إذَا سَقَطَ عَنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَعْجَزْ أَنْ يُعَبِّرَ الْمُثْبِتُ عَنْ مَقْصُودِ إثْبَاتِهِ بِالنَّفْيِ، فَيَقُولُ بَدَلَ قَوْلِهِ: مُحْدَثٌ إنَّهُ لَيْسَ بِقَدِيمٍ، وَبَدَلَ قَوْلِهِ: قَادِرٌ إنَّهُ لَيْسَ بِعَاجِزٍ، مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. وَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ شُبْهَتَانِ.
الشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، لِأَنَّهُ نَافٍ. وَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِكَوْنِهِ نَافِيًا وَلَا لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى سُقُوطِ الدَّلِيلِ عَنْ النَّافِي. بَلْ ذَلِكَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا قَضَى بِهِ لِلضَّرُورَةِ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى النَّفْيِ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِأَنْ يُلَازِمَهُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ مِنْ أَوَّلِ وُجُودِهِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَى فَيُعْلَمُ انْتِفَاءُ سَبَبِ اللُّزُومِ قَوْلًا وَفِعْلًا بِمُرَاقَبَةِ اللَّحَظَاتِ، فَكَيْفَ يُكَلَّفُ إقَامَةَ الْبُرْهَانِ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ إقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ؟ بَلْ الْمُدَّعِي أَيْضًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ،؛ لِأَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِينَ لَا يُحَصِّلُ الْمَعْرِفَةَ بَلْ الظَّنَّ بِجَرَيَانِ سَبَبِ اللُّزُومِ مِنْ إتْلَافٍ أَوْ دَيْنٍ وَذَلِكَ فِي الْمَاضِي، أَمَّا فِي