للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْإِدْرَاكَاتِ صَارَتْ مَحْصُورَةً فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ أَوْ فِي التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ وَكُلُّ عِلْمٍ تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَصْدِيقٌ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ مَعْرِفَتَانِ أَيْ: تَصَوُّرَانِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُفْرَدَ كَيْفَ يَعْلَمُ الْمُرَكَّبَ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى الْعَالَمِ وَمَعْنَى الْحَادِثِ كَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ، وَمَعْرِفَةُ الْمُفْرَدَاتِ قِسْمَانِ: أَوَّلِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُطْلَبُ بِالْبَحْثِ وَهُوَ الَّذِي يَرْتَسِمُ مَعْنَاهُ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَطَلَبٍ كَلَفْظِ الْوُجُودِ وَالشَّيْءِ وَكَكَثِيرٍ مِنْ الْمَحْسُوسَاتِ، وَمَطْلُوبٌ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ اسْمُهُ مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ جُمْلِيٍّ غَيْرِ مُفَصَّلٍ وَلَا مُفَسَّرٍ فَيُطْلَبُ تَفْسِيرُهُ بِالْحَدِّ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إلَى أَوَّلِيٍّ كَالضَّرُورِيَّاتِ، وَإِلَى مَطْلُوبٍ كَالنَّظَرِيَّاتِ.

وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ لَا يُقْتَنَصُ إلَّا بِالْحَدِّ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ لَا يُقْتَنَصُ إلَّا بِالْبُرْهَانِ، فَالْبُرْهَانُ وَالْحَدُّ هُوَ الْآلَةُ الَّتِي بِهَا يُقْتَنَصُ سَائِرُ الْعُلُومِ الْمَطْلُوبَةِ. فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الْمَرْسُومَةُ لِبَيَانِ مَدَارِكِ الْعُقُولِ مُشْتَمِلَةً عَلَى دِعَامَتَيْنِ دِعَامَةٌ فِي الْحَدِّ وَدِعَامَةٌ فِي الْبُرْهَانِ.

[الدِّعَامَةُ الْأُولَى فِي الْحَدِّ]

[الْفَنُّ الْأَوَّلُ فِي الْقَوَانِينِ]

الدِّعَامَةُ الْأُولَى: فِي الْحَدِّ الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي الْقَوَانِينِ وَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا لِأَنَّ الْمُفْرَدَاتِ تَتَقَدَّمُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُرَكَّبَاتِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى فَنَّيْنِ: فَنٍّ يَجْرِي مَجْرَى الْقَوَانِينِ، وَفَنٍّ يَجْرِي مَجْرَى الِامْتِحَانَاتِ لِتِلْكَ الْقَوَانِينِ.

الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي الْقَوَانِينِ وَهِيَ سِتَّةٌ: الْقَانُونُ الْأَوَّلُ

أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يُذْكَرُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ فِي الْمُحَاوَرَاتِ، وَلَا يَكُونُ الْحَدُّ جَوَابًا عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ بَلْ عَنْ بَعْضِهِ وَالسُّؤَالُ طَلَبٌ وَلَهُ لَا مَحَالَةَ مَطْلُوبٌ وَصِيغَةٌ، وَالصِّيَغُ وَالْمَطَالِبُ كَثِيرَةٌ وَلَكِنَّ أُمَّهَاتِ الْمَطَالِبِ أَرْبَعٌ

الْمَطْلَب الْأَوَّلُ: مَا يُطْلَبُ بِصِيغَةِ " هَلْ ". يُطْلَبُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ أَمْرَانِ إمَّا أَصْلُ الْوُجُودِ كَقَوْلِكَ: هَلْ اللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ، أَوْ يُطْلَبُ حَالُ الْمَوْجُودِ وَوَصْفُهُ كَقَوْلِكَ: هَلْ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْبَشَرِ، وَهَلْ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ وَآمِرٌ وَنَاهٍ.

الْمَطْلَبُ الثَّانِي: مَا يُطْلَبُ بِصِيغَةِ " مَا ".

وَيُطْلَقُ لِطَلَبِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يُطْلَبَ بِهِ شَرْحُ اللَّفْظِ كَمَا يَقُولُ مَنْ لَا يَدْرِي الْعُقَارَ: مَا الْعُقَارُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: الْخَمْرُ، إذَا كَانَ يَعْرِفُ لَفْظَ الْخَمْرِ

الثَّانِي: أَنْ يُطْلَبَ لَفْظٌ مُحَرَّرٌ جَامِعٌ مَانِعٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَسْئُولُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ كَيْفَمَا كَانَ الْكَلَامُ سَوَاءٌ كَانَ عِبَارَةً عَنْ عَوَارِضِ ذَاتِهِ وَلَوَازِمِهِ الْبَعِيدَةِ عَنْ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ أَوْ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ كَمَا سَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا الْخَمْرُ؟ فَيُقَالُ: هُوَ الْمَائِعُ الَّذِي يَقْذِفُ بِالزَّبَدِ ثُمَّ يَسْتَحِيلُ إلَى الْحُمُوضَةِ وَيُحْفَظُ فِي الدَّنِّ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لِحَقِيقَةِ ذَاتِهِ بَلْ يُجْمَعُ مِنْ عَوَارِضِهِ وَلَوَازِمِهِ مَا يُسَاوِي بِجُمْلَتِهِ الْخَمْرَ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْرٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ بِخَمْرٍ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَبَ بِهِ مَاهِيَّةُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَةُ ذَاتِهِ، كَمَنْ يَقُولُ: مَا الْخَمْرُ؟ فَيُقَالُ: هُوَ شَرَابٌ مُسْكِرٌ مُعْتَصَرٌ مِنْ الْعِنَبِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَاشِفًا عَنْ حَقِيقَتِهِ ثُمَّ يَتْبَعُهُ لَا مَحَالَةَ التَّمْيِيزُ. وَاسْمُ الْحَدِّ فِي الْعَادَةِ. يُطْلَقُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ بِالِاشْتِرَاكِ، فَلْنَخْتَرِعْ لِكُلِّ

<<  <   >  >>