مِنْ الْبَاعِثِ لَمْ يَنْبَعِثْ إلَّا عِنْدَ حُضُورِهِمَا فِي ذِهْنِهِ وَقَدْ انْبَعَثَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ إلَّا مُجَرَّدُ الْفَقْرِ، فَمَنْ جَوَّزَ تَسْمِيَةَ الْبَاعِثِ لَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَ مُجَرَّدَ التَّمَاثُلِ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَبْعَثُنَا عَلَى إيجَابِ الْمِثْلِ فِي ضَمَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِنَا إضَافَتُهُ إلَى غَيْرِ الْمُصَرَّاةِ فَإِنَّهُ قَدْ لَا تَحْضُرُنَا مَسْأَلَةُ الْمُصَرَّاةِ أَصْلًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ
الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ لِاسْمِ الْعِلَّةِ عِلَّةُ الْمَرِيضِ وَمَا يُظْهِرُ الْمَرَضَ عِنْدَهُ كَالْبُرُودَةِ، فَإِنَّهَا عِلَّةُ الْمَرَضِ مَثَلًا، وَالْمَرَضُ يَظْهَرُ عَقِيبَ غَلَبَةِ الْبُرُودَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبُرُودَةِ بَلْ رُبَّمَا يَنْضَافُ إلَيْهَا مِنْ الْمِزَاجِ الْأَصْلِيِّ أُمُورٌ مَثَلًا كَالْبَيَاضِ، لَكِنْ انْضَافَ الْمَرَضُ إلَى الْبُرُودَةِ الْحَادِثَةِ؛ وَكَمَا يَنْضَافُ الْهَلَاكُ إلَى اللَّطْمِ الَّذِي تَحْصُلُ التَّرْدِيَةُ بِهِ فِي الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ اللَّطْمِ لَا يُهْلِكُ دُونَ الْبِئْرِ لَكِنْ يُحَالُ بِالْحُكْمِ عَلَى اللَّطْمِ لَا عَلَى التَّرْدِيَةِ الَّتِي ظَهَرَ بِهَا الْهَلَاكُ دُونَ مَا تَقَدَّمَ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ سَمَّى الْفُقَهَاءُ الْأَسْبَابَ عِلَلًا فَقَالُوا: عِلَّةُ الْقِصَاصِ الْقَتْلُ وَعِلَّةُ الْقَطْعِ السَّرِقَةُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى الْمَحَلِّ وَالشَّرْطِ؛ فَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى التَّمَاثُلُ الْمُطْلَقُ عِلَّةً وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْمَأْخَذُ فَمَنْ قَالَ: مُجَرَّدُ التَّمَاثُلِ: هَلْ هُوَ عِلَّةٌ؟ فَيُقَالُ لَهُ: مَا الَّذِي تَفْهَمُ مِنْ الْعِلَّةِ وَمَا الَّذِي تَعْنِي بِهَا؟ فَإِنْ عَنَيْتَ بِهَا الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ فَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ لَا يُوجِبُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ طَبْعُ الْكَلَامِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً وَقَالَ: يَصِيرُ التَّخْصِيصُ قَيْدًا مَضْمُومًا إلَى الْعِلَّةِ وَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ هُوَ الْعِلَّةُ، وَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَجْمُوعِ وَفَاءٌ بِالْعِلَّةِ وَلَيْسَ بِنَقْضٍ لَهَا. وَإِنْ عَنَيْتَ بِهِ الْبَاعِثَ أَوْ مَا يَظْهَرُ الْحُكْمُ بِهِ عِنْدَ النَّاظِرِ وَإِنْ غَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ عِلَّةً. هَذَا حُكْمُ النَّظَرِ فِي التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ، أَمَّا الِاحْتِرَازُ فِي الْجَدَلِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلِاصْطِلَاحِ، وَيَقْبُحُ أَنْ يُكَلَّفَ الِاحْتِرَازَ فِيهِ فَيَقُولَ: تَمَاثُلٌ فِي غَيْرِ الْمُصَرَّاةِ وَشِدَّةٌ فِي غَيْرِ ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ إنْ أُخِذَتْ مِنْ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحَلِّ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ مَعْنًى، بَلْ الْعِلَّةُ الْمَجْمُوعُ وَالْمَحَلُّ وَالْأَهْلُ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْعَلَامَةُ وَإِنَّمَا الْعَلَامَةُ جُمْلَةُ الْأَوْصَافِ وَالْإِضَافَاتِ. نَعَمْ لَا يُنْكَرُ تَرْجِيحُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ فِي أَحْكَامِ الضَّمَانِ وَغَيْرِهَا إذْ يَحِلُّ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْدِي دُونَ الْحَافِرِ وَإِنْ كَانَ الْهَلَاكُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا لِنَوْعٍ مِنْ التَّرْجِيحِ، وَكَذَلِكَ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ تَمَامِ النِّصَابِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، لَكِنْ رُبَّمَا لَا يَنْقَدِحُ لِلْمُجْتَهِدِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وَيَرَاهَا مُتَفَاوِتَةً فِي مُنَاسَبَةِ الْحُكْمِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا الِاصْطِلَاحُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ الْبَعْضِ بِالْمَحَلِّ وَعَنْ الْبَعْضِ بِرُكْنِ الْعِلَّةِ. وَهَذَا فِيهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ شِفَاءِ الْغَلِيلِ وَلَمْ نُورِدْهُ هَهُنَا؛ لِأَنَّهَا مَبَاحِثُ فِقْهِيَّةٌ قَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي الْفِقْهِ فَلَا نُطَوِّلُ الْأُصُولَ بِهَا
[مَسْأَلَةٌ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ]
مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ
وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَامَةٌ وَلَا يَمْتَنِعُ نَصْبُ عَلَامَتَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ هَذَا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَدَلِيلُ جَوَازِهِ وُقُوعُهُ فَإِنَّ مَنْ لَمَسَ وَمَسَّ وَبَالَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ وَلَا يُحَالُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَمَنْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةُ أَخِيكَ وَأُخْتُكَ أَيْضًا أَوْ جُمِعَ لَبَنُهُمَا وَانْتَهَى إلَى حَلْقِ الْمُرْضَعِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْكَ؛ لِأَنَّكَ خَالُهَا وَعَمُّهَا، وَالنِّكَاحُ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَتَحْرِيمُهُ حُكْمٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute