الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَكَمَا لَا يَثْبُتُ الْقِيَاسُ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ فَكَذَلِكَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ. مِنْ الْأُصُولِ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَعِبَادَاتِهِ فَكَيْفَ صَارَ اتِّبَاعُهُمْ لِلْبَعْضِ دَلِيلًا، وَلَمْ تَصِرْ مُخَالَفَتُهُمْ فِي الْبَعْضِ دَلِيلَ جَوَازِ الْمُخَالَفَةِ.
الثَّالِثُ وَهُوَ التَّحْقِيقُ: أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ تَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ، وَالْوُضُوءِ، وَقَدْ كَانَ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ شَرْعَهُ، وَشَرْعَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ فَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَعَلَّمَهُمْ الْوُضُوءَ، وَقَالَ: «هَذَا وُضُوئِي، وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» ، وَأَمَّا الْوِصَالُ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالصَّوْمِ، وَاشْتَغَلَ مَعَهُمْ بِهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِفِعْلِهِ امْتِثَالَ الْوَاجِبِ، وَبَيَانِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُمْ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْمُوَافَقَةَ، وَكَذَلِكَ فِي قُبْلَةِ الصَّائِمِ رُبَّمَا كَانَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مُسَاوَاةَ الْحُكْمِ فِي الْمُفْطِرَاتِ، وَأَنَّ شَرْعَهُ شَرْعُهُمْ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْدَاثِ قَدْ عَرَّفَهُمْ مُسَاوَاةَ الْحُكْمِ فِيهَا فَفَهِمُوا لَا بِمُجَرَّدِ حِكَايَةِ الْفِعْلِ، كَيْفَ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» ؟ وَأَمَّا خَلْعُ الْخَاتَمِ فَهُوَ مُبَاحٌ فَلَمَّا خَلَعَ أَحَبُّوا مُوَافَقَتَهُ لَا لِاعْتِقَادِهِمْ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، أَوْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ لَمَّا سَاوَاهُمْ فِي سُنَّةِ التَّخَتُّمِ فَيُسَاوِيهِمْ فِي سُنَّةِ الْخَلْعِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ عَامٌّ إلَّا مَا اسْتَثْنَى قُلْنَا: لَا بَلْ الْأَصْلُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ فَهُوَ خَاصٌّ إلَّا مَا عَمَّمَهُ.
فَإِنْ قِيلَ التَّعْمِيمُ أَكْثَرُ فَلْيُنْزَلْ عَلَيْهِ. قُلْنَا وَلِمَ يَجِبْ التَّنْزِيلُ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَإِذَا اُشْتُبِهَتْ أُخْتٌ بِعَشْرِ أَجْنَبِيَّاتٍ فَالْأَكْثَرُ حَلَالٌ، وَلَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ؟ كَيْفَ، وَالْمُبَاحَاتُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ، فَلْتُلْحَقْ بِهَا؟ وَالْمَنْدُوبَاتُ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَلْتُلْحَقْ بِهَا بَلْ رُبَّمَا قَالَ الْقَائِلُ: الْمَحْظُورَاتُ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَلْتُنَزَّلْ عَلَيْهَا
[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي شُبُهَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ]
ِ الْأُولَى: قَالَ قَائِلٌ: إذَا نُقِلَ إلَيْنَا فِعْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُ، وَمَا الَّذِي يُسْتَحَبُّ؟ قُلْنَا: لَا يَجِبُ إلَّا أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْبَحْثُ عَنْهُ هَلْ وَرَدَ بَيَانًا لِخِطَابٍ عَامٍّ أَوْ تَنْفِيذًا لِحُكْمٍ
لَازِمٍ عَامٍّ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ، أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ قَاصِرًا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ بَيَانًا لِحُكْمٍ عَامٍّ فَالْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ نَدْبًا فِي حَقِّهِ أَوْ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا أَوْ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً مُوَسَّعًا أَوْ مُضَيَّقًا، لَا يَجِبُ بَلْ هُوَ زِيَادَةُ دَرَجَةٍ، وَفَضْلٌ فِي الْعِلْمِ يُسْتَحَبُّ.
لِلْعَالَمِ أَنْ يَعْرِفَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَمْ أَصْنَافُ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ سِوَى الْفِعْلِ؟ قُلْنَا: مَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالٌ، كَالْمُجْمَلِ، وَالْمَجَازِ، وَالْمَنْقُولِ عَنْ وَضْعِهِ، وَالْمَنْقُولِ بِتَصَرُّفِ الشَّرْعِ، وَالْعَامِّ الْمُحْتَمِلِ لِلْخُصُوصِ، وَالظَّاهِرِ الْمُحْتَمِلِ لِلتَّأْوِيلِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِ افْعَلْ أَنَّهُ لِلنَّدَبِ أَوْ الْوُجُوبِ أَوْ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي أَوْ أَنَّهُ لِلتَّكْرَارِ أَوْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْجُمَلُ الْمَعْطُوفَةُ إذَا أُعْقِبَتْ بِاسْتِثْنَاءٍ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِمَّا يَتَعَارَضُ فِيهِ الِاحْتِمَالُ، وَالْفِعْلُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ بَيَّنَ لَنَا بِفِعْلِهِ نَدْبًا فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُهُ وَاجِبًا قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ تَبْلِيغٌ لِلشَّرْعِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ نَدْبٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ إلَى أَنَّ بَيَانَ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَبَيَانَ النَّدْبِ نَدْبٌ، وَبَيَانَ الْمُبَاحِ مُبَاحٌ، وَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ الْمَحْظُورِ مَحْظُورًا، فَإِذَا كَانَ بَيَانُ الْمَحْظُورِ وَاجِبًا فَلِمَ لَا يَكُونُ بَيَانُ النَّدْبِ وَاجِبًا؟ وَكَذَلِكَ بَيَانُ الْمُبَاحِ، وَهِيَ أَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَالرَّسُولُ مَأْمُورٌ بِالتَّبْلِيغِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute